وزعمت الفلاسفة أن النغم فضلّ بقي من المنطق لم يقدر اللسان على استخراجه فاستخرجته الطبيعة بالالحان على الترجيع لا على التقطيع، فلما ظهر عشقته النفس وحنّ إليه الروح؛ ولذلك قال أفلاطون: لا ينبغي ان تمنع النفس من معاشقة بعضها بعضا؛ ألا ترى ان اهل الصناعات كلّها إذا خافوا الملالة والفتور على أبدانهم، ترنّموا بالالحان، فاستراحت لها أنفسهم.
وليس من احد كائنا من كان إلا وهو يطرب من صوت نفسه، ويعجبه طنين رأسه؛ ولو لم يكن من فضل الصوت إلا أنه ليس في الأرض لذة تكتسب من مأكل أو ملبس أو مشرب أو نكاح أو صيد، إلا وفيه معاناة على البدن، وتعب على الجوارح. غيره، لكفى.
وقد يتوصل بالالحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة؛ ذلك أنها تبعث على مكارم الاخلاق، من اصطناع المعروف، وصلة الرحم، والذبّ عن الاعراض، والتجاوز عن الذنوب؛ وقد يبكي الرجل بها على خطيئته، ويرق القلب من قسوته، ويتذكر نعيم الملكوت ويمثله في ضميره.
وكان أبو يوسف القاضي ربما حضر مجلس الرشيد وفيه الغناء، فيجعل مكان السرور به بكاء، كأنه يتذكر به نعيم الآخرة!.
[لابن أبي داود]
وقال أحمد بن أبي داود إن كنت لاسمع الغناء من مخارق عند المعتصم، فيقع علي البكاء!.
حتى إن البهائم لتحنّ إلى الصوت الحسن وتعرف فضله؛ وقال العتابي وذكر رجلا، فقال: والله إن جليسه لطيب عشرته لأطرب من الإبل على الحداء، والنحل على الغناء.