خذ من نفسك ساعة نشاطك وفراغ بالك وإجابتها إياك، فإنّ قليل تلك الساعة أكرم جوهرا، وأشرف حسبا، وأحسن في الاستماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين من لفظ شريف، ومعنى بديع؛ واعلم أنّ ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكدّ والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمعاودة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولا قصدا، وخفيفا على اللسان سهلا، وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه؛ وإياك والتوعّر، فإنّ التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك. ومن أراغ معنى كريما فليلتمس له لفظا كريما، فإنّ حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالا منك قبل أن تلتمس إظهارهما، وترهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما؛ فكن في ثلاثة منازل: فأوّل ذلك أن يكون لفظك رشيقا عذبا، أو فخما سهلا؛ ويكون معناك ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا، إمّا عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإمّا عند العامّة إن كنت للعامّة أردت؛ والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتّضع بأن يكون من معاني العامّة؛ وإنما مدار الشرف على الصواب، وإحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكل مقام من المقال؛ وكذلك اللفظ العامي والخاصي؛ فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة لفظك، ولطف مداخلك، وقدرتك في نفسك- أن تفهم العامّة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ المتوسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء، فأنت البليغ التام.
فقال له إبراهيم بن جبلة: جعلت فداك، أنا أحوج إلى تعلمي هذا الكلام من هؤلاء الغلمة.
خطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في حجة الوداع
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا. من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضللّ فلا هادي له،