الحروف، وذلك ممكن لكل إنسان، غير أنّ اللطيف من ذلك أن تأخذ لبنا حليبا فتكتب به في القرطاس، فيذرّ المكتوب له عليه رمادا سخنا من رماد القراطيس، فيظهر ما كتبت به إن شاء الله؛ وإن شئت كتبت بماء الزاج الأبيض، فإذا وصل إلى المكتوب إليه أمرّ عليه شيئا من غبار الزاج. وإن أحببت أن لا يقرأ الكتاب بالنهار ويقرأ بالليل، فاكتبه بمرارة السّلحفاة.
[قولهم في الأقلام]
قالوا: القلم أحد اللسانين، وهو المخاطب للعيون بسرائر القلوب على لغات مختلفة، من معان معقودة بحروف معلومة مؤلّفة، متباينات الصور، مختلفات الجهات، لقاحها التفكر، ونتاجها التدبر، تخرس منفردات، وتنطق مزدوجات، بلا أصوات مسموعة، ولا ألسن محدودة، ولا حركات ظاهرة، خلا قلم حرّف باريه قطّته ليتعلق المداد به، وأرهف جانبيه ليردّ ما انتشر عنه إليه، وشق رأسه ليحتبس المداد عليه، فهنالك استمدّ القلم بشقه، ونثر في القرطاس بخطه حروفا أحكمها التفكر، وجرى على أسلته الكلام الذي سداه العقل، وألحمه اللسان، ونهسته اللهوات، وقطعته الأسنان، ولفظته الشفاه، ووعته الأسماع، عن أنحاء شتى من صفات وأسماء.
وقال الشاعر وهو أبو الحسن محمد بن عبد الملك بن صالح الهاشمي:
وأسمر طاوي الكشح أخرس ناطق ... له ذملان في بطون المهارق «١»
إذا استعجلته الكفّ أمطر وبله ... بلا صوت إرعاد ولا ضوء بارق
إذا ما حدا غرّ القوافي رأيتها ... مجلّلة تمضي أمام السّوابق
كأنّ عليه من دجى الليل حلّة ... إذا ما استهلّت مزنه بالصّواعق