منعه الحجاب، وشتمه العبيد، وضربه الأشراط؛ فلما كان في بعض الأيام خرج مالك بن طوق يريد التنزه حول الرحبة، فعارضه الأعرابي، فضربوه ومنعوه، فلم يثنه ذلك حتى أخذ بعنان فرسه، ثم قال: أيها الأمير، إني عائذ بالله من أشراطك هؤلاء! فقال مالك: دعوا الأعرابي؛ هل من حاجة يا أعرابي؟ قال: نعم أصلح الله الأمير؛ أن تصغى إليّ بسمعك، وتنظر إليّ بطرفك، وتقبل إليّ بوجهك. قال: نعم. فأنشأ الأعرابي يقول:
ببابك دون الناس أنزلت حاجتي ... وأقبلت أسعى حوله وأطوف
ويمنعني الحجّاب والسّتر مسبل ... وأنت بعيد والشروط صفوف «١»
يدورون حولي في الجلوس كأنهم ... ذئاب جياع بينهنّ خروف
فأمّا وقد أبصرت وجهك مقبلا ... فأصرف عنه إنني لضعيف
ومالي من الدّنيا سواك ولا لمن ... تركت ورائي مربع ومصيف
وقد علم الحيّان قيس وخندف ... ومن هو فيها نازل وحليف
تخطّيت أعناق الملوك ورحلتي ... إليك وقد حنّت إليك صروف
فجئتك أبغي اليسر منك فمرّ بي ... ببابك من ضرب العبيد صنوف
فلا تجعلن لي نحو بابك عودة ... فقلبي من ضرب الشّروط مخوف
فاستضحك مالك حتى كاد أن يسقط عن فرسه؛ ثم قال لمن حوله: من يعطيه درهما بدرهمين وثوبا بثوبين؟ فوقعت عليه الثياب والدراهم من كل جانب حتى تحير الأعرابي؛ ثم قال له: هل بقيت لك حاجة يا أعرابي؟ قال: أما إليك فلا! قال: فإلى من؟ قال: إلى الله أن يبقيك للعرب؛ فإنها لا تزال بخير ما بقيت لها.
دخل أعرابي إلى هشام بن عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين، أتت علينا ثلاثة أعوام: فعام أذاب الشحم، وعام أكل اللحم، وعام انتقى العظم «٢» ؛ وعندكم أموال، فإن تكن لله فبثوها في عباد الله، وإن تكن للناس فلم تحجب عنهم، وإن تكن لكم