ثم كبّر وحمد وذكر النبي صلّى الله عليه وسلم، وأوصى بالبر والتقوى، ثم قال:
اتقوا الله عباد الله، وبادروا الأمر الذي اعتدل فيه يقينكم ولم يحضر الشك فيه أحدا منكم، وهو الموت المكتوب عليكم، فإنه لا تستقال بعده عثرة، ولا تحظر قبله توبة؛ واعلموا أنه لا شيء [قبله إلا دونه، ولا شيء] بعده إلا فوقه: ولا يعين على جزعه وعلزه «١» وكربة، وعلى القبر وظلمته ووحشته وضيقه وهول مطلعه ومسألة ملكيه- إلا العمل الصالح الذي أمر الله به، فمن زلت عند الموت قدمه، فقد ظهرت ندامته، وفاتته استقالته، ودعا من الرجعة إلى ما لا يجاب إليه، وبذل من الفدية ما لا يقبل منه؛ فالله الله عباد الله، كونوا قوما سألوا الرجعة فأعطوها إذ منعها الذين طلبوها، فإنه ليس يتمنى المتقدمون قبلكم، إلا هذا الأجل المبسوط لكم؛ فاحذروا ما حذركم الله فيه، واتقوا اليوم الذي يجمعكم الله فيه لوضع موازينكم، ونشر صحفكم الحافظة لأعمالكم، فلينظر عبد ما يضع في ميزانه مما يثقل به وما يملي في صحيفته الحافظة لما عليه وله؛ فقد حكى الله لكم ما قال المفرّطون عندما طال إعراضهم عنها؛ قال جل ذكره: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ: يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها؟ وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً
«٣» ! ولست أنهاكم عن الدنيا بأكثر مما نهتكم به الدنيا عن نفسها، فإن كل ما بها يحذّر منها وينهى عنها، وكل ما فيها يدعو إلى غيرها، وأعظم مما رأته أعينكم من فجائعها وزوالها، ذمّ كتاب الله لها والنهي عنها؛ فإنه يقول تبارك وتعالى: فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ