فنأخذ الأمان لأنفسنا، وإما أن تأذن لنا فنخرج. فقال ابن الزبير: لقد كنت عاهدت الله لا يبايعني أحد فأقبله بيعته إلا ابن صفوان، فقال له ابن صفوان: أمّا أنا فإني أقاتك معك حتى أموت بموتك، وإنها لتأخذني الحفيظة أن أسلمت في مثل هذه الحالة! قال له رجل آخر: اكتب إلى عبد الملك بن مروان. فقال له: كيف أكتب:
من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الملك بن مروان؟ فو الله لا يقبل هذا أبدا؛ أم أكتب: لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من عبد الله بن الزبير؟ فو الله لأن تقع الخضراء «١» على الغبراء «٢» أحبّ إليّ من ذلك! فقال عروة بن الزبير وهو جالس معه على السرير: يا أمير المؤمنين قد جعل الله لك أسوة. قال: من هو؟ قال: حسن بن عليّ، خلع نفسه وبايع معاوية. فرفع ابن الزبير رجله فضرب بها عروة حتى ألقاه عن السرير، وقال: يا عروة، قلبي إذا مثل قلبك، والله لو قبلت ما يقولون ما عشت إلا قليلا وقد أخذت الدنيّة، وإن ضربة بسيف في عزّ خير من لطمة في ذل.
فلما أصبح دخل عليه بعض نسائه- وهي أم هاشم بنت منصور بن زياد الفزارية- فقال لها: اصنعي لنا طعاما. فصنعت له كبدا وسناما، فأخذ منهما لقمة فلاكها ثم لفظها «٣» ؛ ثم قال: اسقوني لبنا. فأتي بلبن، فشرب منه، ثم قال: هيئوا لي غسلا! فاغتسل ثم تحنط وتطيّب، ثم نام نومة وخرج.
ودخل على أمه أسماء ابنة أبي بكر ذات النطاقين «٤» ، وهي عمياء وقد بلغت مائة سنة، فقال: يا أماه، ما ترين؟ قد خذلني الناس وخذلني أهل بيتي! فقالت: لا يلعبنّ بك صبيان بني أمية: عش كريما ومت كريما! فخرج فأسند ظهره إلى الكعبة ومعه نفر يسير فجعل يقاتلهم ويهزمهم وهو يقول:
ويلمّه! يا له فتحا لو كان له رجال! فناداه الحجاج: قد كان لك رجال فضيّعتهم!