يعزب عني؛ لحسن ما رأيت، وشجو ما سمعت؛ تلك هي الذلفاء التي يقول فيها الشاعر:
إنما الذّلفاء ياقوتة ... أخرجت من كيس دهقان «١»
شراؤها على أخي ألف ألف درهم، وهي عاشقة لمن باعها، والله إني من لا يموت إلا بحزنها، ولا يدخل القبر إلا بغصّتها، وفي الصبر سلوة، وفي توقّع الموت نهية؛ قم أبا زيد فاكتم المفاوضة؛ يا غلام، ثقّله ببدرة. فأخذتها وانصرفت.
قال أبو زيد: فلما أفضت الخلافة إلى سليمان، صارت الذلفاء إليه، فأمر بفسطاط «٢» ، فأخرج على دهناء الغوطة، وضرب في روضة خضراء مونقة زهراء ذات حدائق بهجة، تحتها أنواع الزهر الغض، من بين أصفر فاقع، وأحمر ساطع، وأبيض ناصع؛ فهي كالثوب الحرمي وحواشي البرد الاتحميّ «٣» يثير منها مرّ الرياح نسيما يربي على رائحة العنبر، وفتيت المسك الاذفر، وكان له مغن ونديم وسمير، يقال له سنان، به يأنس، وإليه يسكن، فأمره ان يضرب فسطاطه بالقرب منه، وقد كانت الذلفاء خرجت مع سليمان إلى ذلك المتنزّه، فلم يزل سنان يومه ذلك عند سليمان، في اكمل سرور، وأتم حبور، إلى أن انصرف مع الليل الى فسطاطه، فنزل به جماعة من اخوانه، فقالوا له: قرانا أصلحك الله قال: وما قراكم؟ قالوا أكل وشرب وسمع.
قال: أما الأكل والشرب فمباحان لكم، وأما السماع فقد عرفتم شدة غيرة أمير المؤمنين ونهيه إياي عنه، إلا ما كان في مجلسه. قالوا: لا حاجة لنا بطعامك وشرابك وإن لم تسمعنا. قال: فاختاروا صوتا واحدا أغنيكموه. قالوا: غنّنا صوت كذا.
قال: فرفع عقيرته يتغنى بهذه الابيات:
محجوبة سمعت صوتي فأرّقها ... في آخر اليل لمّا ظلّها السحر
تثني على الخدّ منها من معصفرة ... والحلي باد على لبّاتها خضر «٤»