الباطنة الغريزية إلى ظاهر البدن ويخلو منها باطنه، فتضعف الحرارة في باطنه عن هضمه. فلذلك كانت القدماء تفضل العشاء على الغداء لما يلحق العشاء من اجتماع الحرارة على باطن البدن، لبرد الليل والنوم، ولأن الحرارة في النوم تبطيء، ويسخن باطن البدن ويبرد ظاهره. واليقظة على خلاف ذلك، لأن الحرارة تنتشر في ظاهر البدن وتضعف في باطنه. والذي يحتاج إلى كثرة الغذاء من الناس من كان الغالب على بدنه الحرارة، وكانت معدته لحرارتها سريعة الانهضام، وكانت كبده لحرارتها سريعة التوليد للمرة الصفراء؛ فلذلك يحتاج إلى الأطعمة الغليظة البطيئة الانهضام ويستمرئها، ويستمريء لحم البقر ولا يستمريء لحم الدجاج وما أشبهه من الأطعمة الخفيفة.
ولا يصلح شيء من هذه إلا في وقت تحرّك الشهوة، فإنه أفضل وقت يؤخذ فيه الطعام؛ وللعادة في هذا حظ عظيم. ألا ترى أنه من اعتاد الغداء فتركه واقتصر على العشاء عظم ضرر ذلك عليه؟ ومن كانت عادته أكلة واحدة فجعلها أكلتين لم يستمريء طعامه، ومن كانت عادته أن يجعل طعامه في وقت من الأوقات فنقله إلى غير ذلك الوقت أضر ذلك به، وإن كان قد نقله إلى وقت محمود؛ فيجب لذلك أن يتبع العادة إذا تقادمت فطالت، وإن كانت ليست بصواب، إذا لم يجد شيئا اضطره إلى نقله؛ لأن العادة طبيعة ثانية كما ذكر الحكيم أبقراط، فإن حدث شيء يدعوه إلى الانتقال عنها فأوفق الأمور في ذلك أن ينقل عنها قليلا قليلا.
وللشهوة أيضا في استمراء الطعام أعظم الحظ؛ لأنها دليل على الموافقة والملاءمة، فمتى كان طعامان متساويان في الجودة، وكانت شهوة المحتاج إليهما إلى أحدهما أميل، رأينا إيثار المشتهي على الآخر، لأنه أوفق للطبيعة، وأسهل عليها في الاستمراء. ومتى كان أحدهما أجود من الآخر، وكانت شهوة المحتاج إليهما أميل إلى أردئهما. اخترناه على الأجود إذا لم نخف منه ضررا لكثير ما ينال منه من المنفعة، لقبول المعدة له واستمرائها إياه.
فقد بان أنه يحتاج في حال الأغذية وجودة تخير الأطعمة إلى معرفة اختلاف الطبائع وحالاتها؛ فقد بينت اختلاف طبائع الأبدان وحالاتها، وما يجب على كل