وسقى قوم أعرابيا كئوسا، ثم قالوا: كيف تجدك؟ قال: أجدني أسرّ، وأجدكم تحبّبون إليّ.
وقالوا: ما حرّم اللَّه شيئا إلا عوّضنا ما هو خير منه أو مثله، وقد جعل اللَّه النبيذ عوضا من الخمر، نأخذ منه ما يطيب النفس، ويصفي اللون، ويهضم الطعام، ولا نبلغ منه إلى ما يذهب العقل، ويصدع الرأس، ويغثي النفس، ويشرك الخمر في آفاتها وعظيم خبائثها.
قالوا: وأما قولكم إن الخمر كلّ ما خمر، والنبيذ كله يخمّر فهو خمر، فإن الأسماء قد تتشاكل في بعض المعاني، فتسمى ببعضها لعلة فيها وهي في آخر، ولا يطلق ذلك الاسم على الآخر؛ ألا ترى أن اللبن قد يخمرونه بروبة تلقى فيه، ولا بسمى خمرا؟ وأن العجين قد يخمر فيسمى خميرا ولا يسمى خمرا؟ وأن نقيع التمر يسمى سكرا لإسكاره، ولا يسمى غيره من النبيذ سكرا وإن كان مسكرا؟ وهذا أكثر في كلام العرب من أن يحاط به؛ وقد رأيت اللبن يسكر إسكار كسكر النبيذ، ويقال: قوم ملبونون وقوم روبى، إذا شربوا الرائب فسكروا منه؛ وقال بشر بن أبي حازم:
فأما تميم تميم بن مرّ ... فألفاهم القوم روبى نياما
وأما قولكم: الرجل مخمور، وبه خمار، إذا أصابه صداع من الخمر؛ وقد يقال مثل ذلك لمن أصابه صداع من النبيذ، فيقال: به خمار، ولا يقال به نباذ؛ فإن حجتنا في ذلك أن الخمار إنما يكون مما أسكر من النبيذ، وذلك حرام، لا فرق بينه وبين الخمر عندنا، فيقال فيه: ما يقال في الخمر، وإنما كان شربة «١» النبيذ من أسلافنا يشربون منه اليسير على الغداء والعشاء، ومما لا يعرض منه خمار.
وقد فرقت الشعراء بين النبيذ والخمر، فقال الأقيشر، وكان مغرما بالشراب:
وصبهاء جرجانية لم يطف بها ... حنيف، ولم تنغر بها ساعة قدر «٢»