قال: يا إخواني، واللَّه ما هنأني عيش بعدكم، ولست أماطلكم بخبري حتى آتى المنزل، ولكن ميلوا بنا إلى المسجد. فملنا معه، فقال: أعرّفكم أولا بنفسي، أنا العباس بن الأحنف؛ وكان من خبري بعدكم أني خرجت إلى منزلي من عندكم؛ فإذا المسوّدة محيطة بي، فمضي بي إلى دار أمير المؤمنين، فصرت إلى يحيى بن خالد، فقال لي:
ويحك يا عباس! إنما اخترتك من ظرفاء الشعراء، لقرب مأخذك، وحسن تأتّيك! وإن الذي ندبتك له من شأنك؛ وقد عرفت خطرات الخلفاء، وإني أخبرك أنّ ماردة هي الغالبة على أمير المؤمنين اليوم، وأنه جرى بينهما عتب؛ فهي بدالة المعشوق تأبى أن تعتذر، وهو بعز الخلافة وشرف الملك يأبى ذلك؛ وقد رمت الأمر من قبلها فأعياني، وهو أحرى أن تستعزّه «١» الصبابة؛ فقل شعرا يسهّل عليه هذه السبيل.
فقضى كلامه.
ثم دعاني إلى أمير المؤمنين، فصرت إليه وأعطيت قرطاسا ودواة، فاعتراني الزّمع «٢» وأذهب عني ما أريد الاستحثاث؛ فتعذرت عليّ كلّ عروض «٣» ، ونفرت عني كل قافية؛ ثم انفتح لي شيء، والرسل تعنتني؛ فجاءتني أربعة أبيات رضيتها، وقعت صحيحة المعنى، سهلة الألفاظ، ملائمة لما طلب مني؛ فقلت لأحد الرسل: أبلغ الوزير أني قلت أربعة أبيات، فإن كان بها مقنع ووجهت بها. فرجع إليّ الرسول بأن هاتها، ففي أقل منها مقنع. وفي ذهاب الرسول ورجوعه قلت بيتين من غير ذلك الرويّ، فكتبت الأبيات الأربعة في صدر الرقعة، وعقّبت بالبيتين، فقلت:
العاشقان كلاهما متغضّب ... وكلاهما متوجّد متعتّب
صدّت مغاضبة وصد مغاضبا ... وكلاهما مما يعالج متعب
راجع أحبتك الذين هجرتهم ... إن المتيّم قلما يتجنّب
إنّ التجنّب إن تطاول منكما ... دبّ السّلّو له فعزّ المطلب