دان مسفّ فويق الأرض هيدبه ... يكاد يدفعه من قام بالراح «١»
همت برذاذ، ثم بطش، ثم برش، ثم بوابل، ثم أقلعت وقد غادرت الغدران مترعة تتدفق، والقيعان تتألق، رياض مونقة، ونوافح من ريحها عبقة فسرّحت طرفي راتعا منها في أحسن منظر، ونشقت من رباها أطيب من المسك الأذفر.
قال: فلما انتهينا إلى أوائلها، إذا نحن نجباء على بابه جارية مشرقة، ترنو بطرف مريض الجفون، وسنان النظر، أشعرت حماليقه «٢» فترة وملئت سحرا، فقلت لزميلي:
استنطقها. قال: وكيف السبيل إلى ذلك؟ قلت: استسقها. فاستسقاها، فقالت: نعم ونعمى عين، وإن نزلتم ففي الرحب والسعة! ثم مضت تتهادى كأنها خوط بان «٣» ، أو قضيب خيزران، فراعني ما رأيت منها؛ ثم أتت بالماء فشربت منه، وصببت باقيه على يدي.
ثم قلت: وصاحبي أيضا عطشان! فأخذت الإناء فذهبت، فقلت لصاحبي: من الذي يقول:
إذا بارك اللَّه في ملبس ... فلا بارك اللَّه في البرقع «٤»
يريك عيون الدّمى غرّة ... ويكشف عن منظر أشنع
قال: وسمعت كلامي، فأتت وقد نزعت البرقع ولبست خمارا أسود، وهي تقول:
ألا حيّ ربعي معشر قد أراهما ... أقاما، فما أن يعرفا مبتغاهما
هما استسقيا ماء على غير ظمأة ... ليستمتعا باللّحظ ممن سقاهما
فشبّهت كلامها بعقد درّ وهى فانتثر، فنغمة عذبة رقيقة رخيمة، لو خوطب بها صمّ الصلاب لانبجست، مع وجه يظلم من نوره ضياء العقول، وتتلف من روعته مهج النفوس، وتخف في محاسنه رزانة الحليم، ويحار في بهائه طرف البصير؛ فرقت