فما كان أوشك أن كتب إليه صاحب اليمن يخبره أن بحيرة ساوة غاضت تلك الليلة، وكتب إليه صاحب السّماوة يخبره أن وادي السماوة انقطع تلك الليلة، وكتب إليه صاحب طبريّة أن الماء لم يجر تلك الليلة في بحيرة طبرية؛ وكتب إليه صاحب فارس يخبره أن بيوت النيران خمدت تلك الليلة، ولم تخمد قبل ذلك بألف سنة.
فلما تواترت الكتب أبرز سريره وظهر لأهل مملكته، فأخبرهم الخبر؛ فقال الموبذان «١»
: أيها الملك، إني رأيت تلك الليلة رؤيا هالتني. قال له: وما رأيت؟ قال:
رأيت إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا، قد اقتحمت دجلة، وانتشرت في بلادنا. قال:
رأيت عظيما، فما عندك في تأويلها؟ قال: ما عندي فيها ولا في تأويلها شيء، أرسل إلى عاملك بالحيرة، يوجّه إليك رجلا من علمائهم، فإنهم أصحاب علم بالحدثان.
فبعث إليه عبد المسيح بن نفيلة الغساني: فلما قدم عليه أخبره كسري الخبر. فقال له:
أيها الملك. والله ما عندي فيها ولا في تأويلها شيء ولكن جهّزني إلى خال لي بالشام، يقال له سطيح، قال: جهّزوه. فلما قدم على سطيح وجده قد احتضر؛ فناداه فلم يجبه، وكلمه فلم يردّ عليه، فقال عبد المسيح:
أصمّ أم يسمع غطريف اليمن ... يا فاصل الخطّة أعيت من ومن «٢»
أتاك شيخ الحيّ من آل سنن ... أبيض فضفاض الرّداء والبدن
رسول قيل العجم يهوي للوثن ... لا يرهب الوعد ولا ريب الزّمن «٣»
فرفع إليه رأسه، وقال: عبد المسيح، على جمل مشيح، إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح؛ بعثك ملك بني ساسان، لارتجاج الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموابذان؛ رأى إبلا صعابا، تقود خيلا عرابا. قد اقتحمت في الواد، وانتشرت في البلاد يا عبد المسيح، إذا ظهرت التّلاوة، وفاض وادي السّماوة، وغاضت بحيرة ساوة وظهر صاحب الهراوة، وخمدت نار فارس، فليست بابل للفرس مقاما، ولا الشام