تنكر! فما بقاء الإسلام على هذا؟ وقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصين فقدمتها مرة وقد أصيب ملكهم بسمعه، فبكى بكاء شديدا، فحثه جلساؤه على الصبر فقال: أما إني لست أبكي للبلية النازلة، ولكني أبكي لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمع صوته، ثم قال: أما إذ قد ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب، نادوا في الناس أن لا يلبس ثوبا أحمر إلّا متظلّم. ثم كان يركب الفيل طرفي النهار وينظر هل يرى مظلوما، فهذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله، بلغت رأفته بالمشركين هذا المبلغ، وأنت مؤمن بالله من أهل بيت نبيّه لا تغلبك رأفتك بالمسلمين على شحّ نفسك! فإن كنت إنما تجمع المال لولدك، فقد أراك الله عبرا في الطفل يسقط من بطن أمه ما له على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه، فما يزال الله يلطف بذلك الطفل، حتى تعظم رغبة الناس إليه. ولست الذي تعطي، بل الله تعالى يعطي من يشاء ما يشاء. فإن قلت إنما تجمع المال لتشديد السلطان، فقد أراك الله عبرا في بني أمية، ما أغنى عنهم جمعهم من الذهب وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع حين أراد الله بهم ما أراد. وإن قلت إنما تجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها. فو الله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة ما تدرك إلا بخلاف ما أنت عليه يا أمير المؤمنين. هل تعاقب من عصاك بأشد من القتل. فقال المنصور: لا. فقال: فكيف تصنع بالملك الذي خوّلك ملك الدنيا، وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل ولكن بالخلود في العذاب الأليم. قد رأى ما عقد «١» عليه قلبك، وعملته جوارحك «٢» ، ونظر إليه بصرك، واجترحته يداك، ومشت إليه رجلاك. هل يغني عنك ما شححت عليه من ملك الدنيا إذا انتزعه من يدك ودعاك إلى الحساب؟ قال: فبكى المنصور، ثم قال:
ليتني لم أخلق! ويحك كيف أحتال لنفسي؟ فقال يا أمير المؤمنين، إن للناس أعلاما يفزعون «٣» إليهم في دينهم، ويرضون بهم في دنياهم، فاجعلهم بطانتك يرشدوك، وشاورهم في أمرك يسدّدوك. قال: قد بعثت إليهم فهربوا مني. قال: خافوك أن