للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

والثاني: أنهُ خاصٌّ بمثلِ ما اتفقَ لهُ - صلى الله عليه وسلم - فلا يُلْحَقُ بهِ إلَّا مَنْ أحصرهُ عدوٌّ كافرٌ.

الثالثُ: أن الإحصارَ لا يكونُ إلَّا بالعدوِّ كافرًا كان أو باغيًا، والقولُ المصدرُ هوَ أقْوى الأقوالِ، وليسَ في غيرِه منَ الأقوالِ إلَّا آثارٌ وفتاوى للصحابةِ. هذا وقدْ تقدَّمَ حديثُ البخاريِّ، وأنهُ - صلى الله عليه وسلم - نحرَ قبلَ أنْ يحلقَ وذلكَ في قصةِ الحديبيةِ. قالُوا: وحديثُ ابن عباسٍ هذَا لا يقتضي الترتيبَ كما عرفتَ، ولم يقصدْه ابنُ عباسٍ إنَّما قصدَ وصْفَ ما وقعَ منْ غيرِ نظرٍ إلى ترتيبٍ. وقولُه: "ونحرَ هديَه" هوَ إخبارٌ بأنهُ كانَ معهُ - صلى الله عليه وسلم - هديٌ نحرَهُ هنالكَ، ولا يدلُّ كلامُه على إيجابِه.

وقدِ اختلفَ العلماءُ في وجوبِ الهدي على المحصرِ، فذهبَ الأكثرُ إلى وجوبِه، وخالفَ مالكٌ فقالَ: لا يجبُ والحقُّ معَه، فإنهُ لم يكنْ معَ كلِّ المحصرينَ هديٌ، وهذَا الهديُ الذي كانَ معهُ - صلى الله عليه وسلم - ساقَه مني المدينةِ متنقلًا به، وهوَ الذي أراده اللَّهُ تعالى بقولِه: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (١) والآيةُ لا تدلُّ على الإيجابِ أعني قولَه تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (٢)، وحقَّقناهُ في منحةِ الغفارِ حاشيةِ ضوءِ النهارِ (٣). وقولُه: "حتَّى اعتمرَ عامًا قابلًا"، قيلَ: إنهُ يدلُّ على إيجابِ القضاءِ على مَنْ أُحصِرَ، والمرادُ مَنْ أُحْصِرَ عن النفلِ، وأما مَنْ أُحصِرَ عنْ واجبِه منْ حجٍّ أوْ عمرةٍ فلا كلامَ أنهُ يجبُ عليهِ الإتيانُ بالواجبِ إنْ مُنِعَ منْ أدائهِ، والحقُّ أنهُ لا دلالةَ في كلامِ ابن عبّاسٍ على إيجابِ القضاءِ، فانَّ ظاهرَ ما فيه أنهُ أخبرَ أنهُ - صلى الله عليه وسلم - اعتمرَ عامًا قابلًا ولا كلامَ أنهُ - صلى الله عليه وسلم - اعتمرَ في عامِ القضاءِ، ولكنَّها عمرةٌ أُخْرى ليستْ قضاءً عنْ عمرةِ الحديبيةِ.

أخرجَ مالكٌ بلاغًا (٤): "أن رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حلَّ هوَ وأصحابُه بالحديبيةِ، فنحرُوا الهدي، وحلقُوا رؤوسَهم، وحلُّوا منْ كلِّ شيءٍ قبلَ أنْ يطوفُوا بالبيتِ، وقبلَ أنْ يصلَ إليهِ الهدْيُ"، ثمَّ لم يعلمْ أن رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ أحدًا منْ أصحابِه ولا ممنْ كانَ معهُ يقضُون شيئًا، ولا أنْ يعودُوا لشيءٍ، وقالَ الشافعيُّ: فحيثُ أُحْصِرَ ذَبَحَ وحلَّ ولا قضاءَ عليهِ منْ قِبَلِ أن الله تعالى لم يذكرْ قضاءً، ثمَّ قالَ:


(١) سورة الفتح: الآية ٢٥.
(٢) سورة البقرة: الآية ١٩٦.
(٣) (٢/ ٦٥٧) رقم التعليقة (٣).
(٤) في الموطأ (١/ ٣٦٠).