للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وهوَ بكسرِ الكافِ مَجْمَعُ العضُدِ والكتِفِ (فَقَالَ: كنْ في الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ. وَكَانَ ابْن عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِر الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِسَقَمِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ).

الغريبُ هو مَنْ لا مسكنَ لهُ يأويهِ، ولا سكنَ يأنسُ بهِ، ولا بلدَ يستوطنُ فيهِ كما قيلَ في المسيحِ بن مريم سعدُ المسيحِ يسيحُ، لا ولدَ يموتُ، ولا بناءَ يخربُ. وعطفَ أوْ عابر سبيلِ منْ عطفِ الترقي و"أوْ" ليستْ [للشكِ] (١) بلْ للتخييرِ أوِ الإباحةِ. والأمرُ للإرشادِ، والمعنَى: قدِّرْ نفسَك ونزِّلْها منزلةَ مَنْ هوَ غريبٌ، أو عابرُ سبيلِ. ويحتملُ أنْ [يكون] (٢) أوْ للإضرابِ، والمعنى: بلْ كنْ في الدنيا كأنكَ عابرُ سبيلٍ، لأنَّ الغريبَ قدْ يستوطنُ بلدًا بخلافِ عابرِ السبيلِ، فهمُّه قطعُ المسافةِ إلى مقصدهِ، والمقصدُ هنا إلى اللهِ: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (٤٢)}.

قالَ ابنُ بطالٍ (٣): لما كانَ الغريبُ قليلَ الانبساطِ إلى الناسِ، بلْ هوَ مستوحشٌ منْهم لا يكادُ يمرُّ بمنْ يعرفُه فيأنسُ بهِ، فهوَ ذليلٌ في نفسِه، خائفٌ، وكذلكَ عابرُ السبيلِ لا ينفذُ في سفرهِ إلا بقوتِه وتخفيفِه منَ الأثقالِ غيرَ متشبثٍ بما يمنعهُ عنْ قطعِ سفرهِ، معهُ زادهُ وراحلتهُ، يبلغانِه إلى ما يعنيهِ منْ مقصدهِ. وفي هذا الحديث إشارةٌ إلى الزهدِ في الدنيا، وأخذِ البُلغةِ منْها والكفافِ، فكما لا يحتاجُ المسافرُ إلى أكثرَ مما يبلِّغُه إلى غايةِ سفرهِ [فكذلك] (٤) المؤمنُ لا يحتاجُ في الدنيا إلى أكثرِ ممَّا يبلِّغُهُ المحل. وقولُه: "وكانَ ابنُ عمرَ إلخ" قالَ بعضُ العلماءِ (٥): كلامُ ابن عمرَ متفرعٌ منَ الحديثِ المرفوعِ، وهوَ متضمنٌ لنهايةِ تقصيرِ الأمل من الدنيا، وأن العاقل إذا أمسَى ينبغي لهُ أنْ لا ينتظرَ الصباحَ، وإذا أصبحَ ينبغي لهُ أنْ لا ينتظرَ المساءَ، بلْ يظنُ أن أجلَه قد يدركُه قبلَ ذلكَ. وفي كلامِه الإخبارُ بأنهُ لا بدَّ للإنسانِ منَ الصحةِ والمرضِ، فَيغْتَنِمُ أيامَ صحتهِ، وينفقُ ساعاتِهِ [في الخير وفيما] (٦) يعودُ عليهِ نفعُه، فإنهُ لا يدري متَى ينزلُ بهِ مرضٌ يحولُ بينَه وبينَ فعلِ الطاعاتِ، ولأنهُ إذا مرضَ كُتِبَ لهُ ما كانَ يعملُ صحيحًا،


(١) في (أ): "لذلك".
(٢) زيادة من (أ).
(٣) ذكره ابن حجر في "الفتح" (١١/ ٢٣٤).
(٤) في (أ): "كذلك".
(٥) ذكره ابن حجر في "الفتح" (١١/ ٢٣٥).
(٦) زيادة من (أ).