للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وتعالى، وأما السجود فهو أكثر من ذلك، لأن الإنسان فيه يخضع ويذل ويمرغ (١) أشرف شيء في جسمه -وهو الوجه- وهذا كله فيه خضوع للَّه سبحانه وتعالى، لأن اللَّه هو الذي خلقنا وأوجدنا من العدم وتفضل علينا بالنعم، فمهما شكرناه وعبدناه لا يمكن أن نؤدي شيئًا من شكره على ما تفضل به علينا؛ ولذلك كان إدخال من يدخل اللَّه سبحانه وتعالى الجنة إنما هو برحمته لا بعمل الإنسان كما جاء في الحديث (٢).

ولكن لو يخضع الإنسان للمخلوقين فتلك هي الذلة، ولذلك نهى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أصحابه أن يعظموه كما يعظم الأعاجم رؤساءهم (٣)، فعلينا أن نفرق بين ما يتعلَّق بالخضوع والذل والتعظيم وبين ما يتعلَّق بالاحترام، وقد أُمرنا أن ننزل الناس منازلهم (٤)، فالإنسان عندما يأتيه ضيف عزيز، أو إنسان كبير، أو طالب علم؛ فلا حرج أن يقوم له ويبش (٥) في وجهه، وذلك من صفات المؤمنين، قال اللَّه تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: ١٥٩].

وفي مقابل ذلك صفات نهى عنها الشرع كالخيلاء والكبر والاختيال في الأرض، قال اللَّه تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} [الإسراء: ٣٧]، ولذلك نجد أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لما وجد أبا دجانة -رضي اللَّه عنه- يمشي مِشية المتبختر في وقت المعركة قال له: "إنها لمشية يكرهها اللَّه إلا في هذا


(١) تمرَّغ في التراب، بالغين معجمةً: إِذا تمسَّح به وتقلَّب عليه. انظر: "شمس العلوم"، للحميري (٩/ ٦٢٨٣).
(٢) أخرج البخاري (٦٤٦٧)، ومسلم (٢٨١٦/ ٧٦)، واللفظ له، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قاربوا وسددوا، واعلموا أنه لن ينجو أحد منكم بعمله" قالوا: يا رسول اللَّه ولا أنت؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يتغمدني اللَّه برحمة منه وفضل".
(٣) من ذلك ما أخرجه البخاري (٣٤٤٥) عن عمر -رضي اللَّه عنه-، قال: سمعت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده، فقولوا عبد اللَّه ورسوله".
(٤) أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (٨/ ٢٤٦)، عن عائشة قالت: "أمرنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن ننزل الناس منازلهم". وبنحوه أخرجه أبو داود (٤٨٤٢)، وضعفه الألباني.
(٥) (البَشاشة) طلاقة الوجه، وقد (بَشَّ) به يَبَشُّ بالفتح. ورجل هَشٌّ بَشٌّ، أي: طَلْقُ الوجه. انظر: "مختار الصحاح"، للرازي (ص ٣٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>