للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذلك من حيث الجزئيات، لأننا لو أردنا أن نوازن بين الحاضر والمسافر لربما وجدنا عدة أمثلة نرى فيها أن المشقة تلحق الحاضر أكثر من المسافر، لكن هذا قليل جدًّا، ومهما لحقت الإنسان مشقة، ومهما أصابه من وصب (١)، ومهما حلَّ به من تعب، فهو بين أهله وذويه وجماعته، أما ذاك فهو يركب السهل والوعر (٢)، مهما تنوعت الوسائل ففكره مشغول، وباله فيه اضطراب.

ولذلك نجد من الحاضرين -وبخاصة في وقتنا الحاضر- من تلحقهم أنواع من المشقة أكثر من بعض المسافرين، كمن يقف في شدَّة الحرِّ وقت القيلولة (٣)، ومن يقف بعد صلاة الفجر على فرن يشتعل نارًا؛ ليخبز كي يمدَّ الناس بالطعام ويتصبب العَرق (٤) منه يمينًا وشمالًا، بينما ذاك مسافر في طائرة أو في سيارة فارهة (٥)، أو في سفينة، أو غير ذلك، فلا تلحقه مشقة في بدنه، لكن فكره مشغول، ولذلك قال العلماء: السفر مظنة المشقة، يعني: المشقة في السفر ليست مقطوعة، بل تكون في كل حال، ومعلوم أن هناك يقينًا، وهذا أمر مقطوع به، وهناك ظن وهو أقرب إلى اليقين، ثم تأتي المراتب الأخرى، فالمشقة في السفر مظنونة (٦).


(١) "الوَصَبُ": المرض، وتكسيرُه، والجميعُ الأوصاب. انظر: "تهذيب اللغة"، للأزهري (١٢/ ١٧٨).
(٢) يقال: أسهلَ القومُ، إِذا ركبُوا السَّهْل، وهو ضدُّ الحَزْن. انظر: "جمهرة اللغة"، لابن دريد (٢/ ٨٦٠).
و"الوَعْرُ": المكانُ الحَزْنُ ذُو الوُعورة، ضدُّ السَّهْل. انظر: "لسان العرب"، لابن منظور (٥/ ٢٨٥).
(٣) "القيلولة": الاستراحة نصف النهار، وإن لم يكن معها نوم. انظر: "النهاية" لابن الأثير (٤/ ١٣٣).
(٤) "صَبَبْتُ الماءَ صبًّا فانْصَبَّ، أي: سكَبته فانسكب. والماء يتصبَّبُ من الجبل، أي: يتحدَّرُ". انظر: "الصحاح" للجوهري (١/ ١٦٠).
(٥) "دابة فارهة"، أي: نشيطة حادة قوية. انظر: "النهاية" لابن الأثير (٣/ ٤٤١)، وانظر: "لسان العرب"، لابن منظور (٣/ ٥٢١).
(٦) ولما كانت مظنونة يصعب ضبطها ربطوا الأحكام بما يطلق عليه مسمى السفر.
انظر: "الأشباه والنظائر"، للسبكي (٢/ ١٩٠)، وفيه قال: "رخص السفر حكمتها =

<<  <  ج: ص:  >  >>