للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأمر، فقد كانوا مستضعفين بمكة، والجميع يعلم كيف كان يعاني المسلمون من الأذى، ومن العذاب الذي ينزل بهم بجميع أنواعه من المشركين، لكنهم صبروا، فما وهنوا وما ضعفوا، فبقوا على عقيدتهم، وتحملوا الأذى في سبيل اللَّه، وهاجر مَن هاجر منهم إلى الحبشة، ثم بعد ذلك هاجروا إلى المدينة، إلى هذه البلدة الطيبة، ثم بعد ذلك نصر اللَّه المؤمنين، فبدأت تقوى شوكتهم، وقد أعزَّهم اللَّه سبحانه وتعالى وأخذ نفوذ الدولة الإسلامية تمتدّ يمينًا وشمالًا، وأخذ الناس يدخلون في دين اللَّه أفواجًا، فعمَّ الجزيرة العربية، ثم بعد ذلك امتدَّ شرقًا وغربًا، حتى شمل كثيرًا من أقطار الدنيا، وأصبح أيضًا نور الإسلام ينتشر في كل مكان.

ففي هذه الآية دليل على أن اللَّه سبحانه وتعالى خفَّف عن عباده، وإذا كان اللَّه تعالى خفف عن عباده إذا سافروا، وضربوا في هذه الأرض، فذلك دليل على أن القصر ليس واجبًا؛ لأن التخفيف من الأربع إلى الاثنتين دليل على أن ذلك تيسير، وأن الاثنتين ليستا بواجبتين (١).

وقصة يعلى بن أمية أيضًا عندما أُشكِل عليه ما تتضمنه هذه الآية؛ لأنَّه يدرك تمامًا أن هذه الآية نزلت لسبب، وأن هذا السبب إنما هو الخوف، فهو الذي أدَّى إلى قصر الصلاة من أربع إلى اثنتين، ففهم أنه قد زال الخوف، ففهم أنه إذا زالت العلة زال الحكم فعاد إلى أصله، وهناك قاعدة معروفة: الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا (٢). ثم اتَّجه إلى


(١) انظر: "المجموع شرح المهذب"، للنووي (٤/ ٣٣٩، ٣٤٠)، وفيه قال على عدم وجوب القصر: "واحتج أصحابنا بقول اللَّه تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}، قال الشافعي ولا يستعمل لا جناح إلا في المباح؛ كقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}، واحتجوا بحديث عبد الرحمن بن يزيد في إتمام عثمان ولو كان القصر واجبًا لما وافقوه على تركه".
(٢) انظر: "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لابن القيم (٤/ ٨٠) وفيه قال في تبيين هذه القاعدة: "إذا علق الشارع حكمًا بسبب أو علة زال ذلك الحكم بزوالهما؛ كالخمر علق بها حكم التنجيس ووجوب الحد لوصف الإسكار، فإذا زال عنها وصارت خلًّا زال الحكم، وكذلك السفه والصغر والجنون والإغماء تزول الأحكام المعلقة عليها بزوالها، والشريعة مبنية على هذه القاعدة".

<<  <  ج: ص:  >  >>