للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الآفاق، فلم يبقوا في المدينة؛ فمنهم من بقي بمكة، ومنهم من ذهب إلى الطائف، ومنهم من ذهب إلى البصرة، ومنهم من أقام بالكوفة، ومنهم من ذهب إلى مصر، ومنهم من كان بالشام، وكل منهم يحمل علمًا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (١)؛ ولذلك نجد أن الشافعي بعد أن طوَّف بين العراق ومكة واليمن ألقى عصا التَّسْيارِ (٢) في مصر؛ فغيَّر كثيرًا من الأقوال التي كان قد أخذ بها؛ لأنه وقف على أدلة ووجهات نظر؛ فرجع عن كثير من أقواله القديمة، ودوَّن -أيضًا- مذهبه الجديد المعروف.

* قَالَ: (وَهُوَ أَقْوَى مِنْ عُمُومِ البَلْوَى الَّذِي يَذْهَبُ إِلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لأَنَّ أَهْلَ المَدِينَةِ أَحْرَى أَلَّا يَذْهَبَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ يَعْتَبِرُهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ فِي طَرِيقِ النَّقْلِ).

يقصد بقوله: (في طريق النقل)؛ أي: الواسطة في نقل الأخبار.

(وَبِالجُمْلَةِ: العَمَلُ لَا يُشَكُّ أَنَّهُ قَرِينَةٌ إِذَا اقْتَرَنَتْ بِالشَّيْءِ المَنْقُولِ إِنْ وَافَقَتْهُ أَفَادَتْ بِهِ غَلَبَةَ الظَّنِّ، وَإِنْ خَالَفَتْهُ، أَفَادَتْ بِهِ ضَعْفَ الظَّنِّ، فَأَمَّا هَلْ تَبْلُغُ هَذِهِ القَرِينَةُ مَبْلَغًا تُرَدُّ بِهَا أَخْبَارُ الآحَادِ الثَّابِتَةُ، فَفِيهِ نَظَرٌ، وَعَسَى أَنَّهَا تَبْلُغُ فِي بَعْضٍ، وَلَا تَبْلُغُ فِي بَعْضٍ؛ لِتَفَاضُلِ الأَشْيَاءِ فِي شِدَّةِ عُمُومِ البَلْوَى بِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ السُّنَّةُ الحَاجَةُ إِلَيْهَا أَمَسُّ وَهِيَ كَثِيرَةُ التَّكْرَارِ عَلَى المُكَلَّفِينَ - كَانَ نَقْلُهَا مِنْ طَرِيقِ الآحَادِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَشِرَ قَوْلًا أَوْ عَمَلًا فِيهِ ضَعْفٌ، وَذَلِكَ أَنْ يُوجِبَ ذَلِكَ أَحَدَ أَمْرَيْنِ:


(١) يُنْظَر: "العدة في أصول الفقه" لأبي يعلى الفراء (٤/ ١١٥١)، حيث قال: "ولا يجوز أن يحمل ذلك على تقديم اجتهاد أهل المدينة على اجتهاد غيرهم؛ لأن ذلك إن كان يجب لمشاهدتهم لأقاويل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونزول آي القرآن، فإن ذلك حصل من الصحابة الذين انتقلوا إلى البصرة والكوفة، فلا معنى للتفريق".
(٢) التسيار: السير، وأصله من العصا التي يُتوكأ عليها. انظر: "المقصور والممدود" لأبي علي القالي (ص: ٣٩)، و"مختار الصحاح" (ص: ١٥٩).

<<  <  ج: ص:  >  >>