وفي ذات يوم نأى به (١) المرعى، بمعنى: أبعد به، فتأخر في عودته، فلما عاد وجد أبويه قد ناما؛ أي: قد غرقا في النوم، فشق وصعب عليه أن يوقظهما، لأنهما في لذة النوم، وفي إيقاظهما إزعاج لهما وتنغيص لنومهما، وكان أبناؤه يتضاغون من الجوع؛ أي: يصرخون ويبكون من شدة الجوع، ولكنه مع ذلك وقف ولم يُقَدِّم أبناءه الذين يتضاغون جوعًا، شق عليه أن يوقظ والديه، وبقي حاملًا الإناء، وظل يُحيي ليلته حتى طلع الفجر، ما أراد أن يسقي أبناءه الذين هم فلذات كبده، ولا أن يشرب هو، ولا أن يعطي أهله؛ خشية أن يُقَدِّمهما على والديه، فقال:"إن كنت تعلم أني إنَّما فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك فافرج عنا ما نحن فيه؛ ففرج اللَّه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- شيئًا من ذلك"، يعني: فانفرج شيء من الصخرة، لكن ما انفرج قليل غير كاف لخروجهم.
ثم جاء الآخر فذكر أنه كان لديه خدم يعملون عنده بأجور، وأنه قد وفاهم أجورهم إِلَّا رجلًا واحدًا لمِ يأخذ أجره، وغاب عنه فترة طويلة، وقد جاء في روايات أنه ترك له فرقًا من الأرز، وأنه زرعه، وأخذ يتعاهده حتى نما، ثم بعد ذلك اشترى له من البقر والغنم. . . إلى آخره، حتى جمع له قطيعًا من الإبل والغنم، وجاءه بعد فترة طويلة ذلك الأجير يسأله عن أجره، فقال له: هذا هو حقك، فقال: أتهزأ بي؟ فقال: لا، فأسلمه ما عنده مما قدمه لذلك الرجل ونمَّاه له، فأخذه وسار به في طريقه يسوقه أمامه، ثم قال:"اللهم إن كنت تعل أني إنما فعلت ذلك ابتغاء وجهك" أو "ابتغاء مرضاتك" أو "خشيتك"، والروايات كثيرة "فافرج عنا"، ففرج اللَّه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عنهم شيئًا من تلك الصخرة، لكن الأمر لا يزال -أيضًا- غير كاف للخروج.
ثم يأتي أشدهم، ألا وهو ذلكم الرجل الذي كانت له ابنة عم، وكان قد شغف بحبها، وتعلق قلبه بها، وظل سنين يراودها عن نفسها