إلى ماء البحر الماء كثير، ولا تضره النجاسة إذا لم تغير أحد أوصافه، وقد خالف في ذلك الحنفية؛ لأنَّ الحنفية -كما تعلمون- يرون أنَّ النجاسة تُؤثر، وسنعرفُ أدلتهم، لكنهم عارضتهم أدلة أُخرى، ولا بد من مخرج لذلك، فوضعوا ميزانًا ومقياسًا لذلك، فقالوا: الماء إذا خالطته نجاسة ولم تغير أحد أوصافه لا مانع أن يبقى طاهرًا، لكن بشرط أن يكون من الكثرة بحيث إنك لو حرَّكت طرفًا من طرفيه لما سرى في الحركة إلى الطرف الآخر، أو على التفسير الآخر وهو قوله محمد بن الحسن: عشرةُ أذرع في عشرةِ أذرُعٍ وقال: إنه قاس ذلك في مسجده، أي: عمل موازنة في ذً لك فوجد أنه إذا حرك من هذا القدر لا يصل.
لكننا نقول: أولًا: الرياح تختلف سرعتها واتجاهها، وقد تُنقل من حيث السرعة وغيرها.
ثانيًا: وقد يأتي -كما ذكر العلماء- أن يكون هذا الجدول الممتد، وقد يوقع فيه من النجاسة وغيرها مما يؤثر فيه أيضًا.
إذًا الحنفية أرادوا أن يخرجوا من جملة الأحاديث التي تنهى عن البول في الماء، أو عن غمس اليد قبل إدخالها في الإناء، وعن حديث الأعرابي، وعن حديث القلتين، وإن كانوا يضعفون ذلك أو أكثرهم يضعفه وسيأتي الكلام فيه، وحتى يخرجوا من ذلك وضعوا مقياسًا للحدّ عندهم.
والمؤلف حين قال:"اتفقوا" حتى يدخل الحنفية مع جمهور العلماء، ولذلك عبارات المؤلف هنا فيها دقة؛ لأنه عندما أخبر بذلك أراد أن يوجد موضعًا يلتقي فيه الحنفية مع بقية العلماء؛ لأن أشهر الأقوال في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
- قولٌ يرى: أنَّ الماء إذا حلّت بنجاسة ولم تغيره فهو طاهر.
- وقول آخر: يُقيّده بالقلتين، ويجعلها هي المقياس وهي الحدّ، فإذا وصل الماء إلى قلتين لا يُؤثَر عليه شيءٌ، إلا إذا غيَّر لونه أو طعمه أو ريحه، فما دون القلتين يتغيَّر، فهم يأخذون بمفهوم المخالفة.