واحتج الذين يقولون بأن المحرم لا يُشترط بقول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}[آل عمران: ٩٧]، قالوا: والآية أطلقت، فجاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَفَسَّر الاستطاعة بالزَّاد والراحلة، ولم يفسر ذلك بوجود محرم، فَدَلَّ ذلك على أنَّ المحرم ليس شرطًا، هذا هو الدليل الأول.
واستدلوا ثانيًا بالحديث الذي أخرجه البخاري في "صحيحه" من حديث عدي بن حاتم (١)، والذي قال فيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يخبر ببعض المغيبات، وهو الذي لا ينطق عن الهوى - قال:"يُوشك أن تَخرج الظَّعينة من الحِيرة تؤم البيت لا جوار لها، ولا تخاف إلا اللَّه"، يقول الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يُوشك"؛ أي: يقرب أن يأتي زمن تخرج فيه المرأة من الحِيرة في وسط العراق إلى مكة، وكم بين الحِيرة ومكة؟! فتخرج المرأة تَؤم البيت لا أحد معها مِن محرم ولا غيره، وإنما تخرج وحيدة، وهي في خروجها على هذه الحالة لا تخاف إلا اللَّه؛ أي: لا تخشى إلا اللَّه؛ أي: أنه لا يَعترضها أحد في طريقها، فهذا كناية عن الأمر الذي سيحصل، وها نحن نعيش ذلك، ألا ترون أن الإنسان يَنطلق من أقصى الشرق من هذه البلاد فيأتي إلى مكة، أو يأتي من أقصى الجنوب، أو من أقصى الشمال، وربما يأتي من البلاد المجاورة ويسير وحده ولا يخشى إلا اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذه نعمة من نعم اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا مما أخبر به رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وربما نحن الذين نعيش في أمن وفي رغد وفي اطمئنان قد لا نشعر كثيرًا بأهمية هذا الأمن، لكن مَن الذي يعرف قيمة هذا الأمن؟ إنما هو الذي يعيش في خوف، ولذلك نجد أن اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عندما أمر ببناء بيته ربط ذلك بالأمن، واللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بين أهمية الأمن فيما يتعلَّق باطمئنان نفس المؤمن؛ لأن اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قال عن
(١) أخرجه البخاري (٣٥٩٥)، عن عدي بن حاتم، قال: "بينا أنا عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السَّبيل، فقال: "يا عديُّ، هل رأيت الحيرة؟ ". قلت: لَم أرها، وقد أُنبئت عنها، قال: "فإن طالت بك حياةٌ لَتَرَين الظعينة تَرتحل من الحِيرة، حتى تَطوف بالكعبة لا تَخاف أحدًا إلا اللَّه. . . "، الحديث.