ولذلك لَمَّا نَزَلَ قولُ الله سبحانه وتعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}[التوبة: ٣١]، قال عدي بن حاتمٍ: يا رسول الله، لسنا نعبدهم. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أليسوا يُحَرِّمون ما أَحَلَّ اللَّهُ فتُحَرِّمونَهُ؟ ويُحِلُّون ما حَرَّمَ اللَّهُ فتُحِلُّونه؟ ". قال: بلى. قال:"فتلك عبادتهم"(١).
أي: أنكم اتخذتموهم مُشَرِّعِين يُشَرِّعُون لكم من دون الله، فَمَنْ حَكَمَ بغير شريعة الله مُعتقِدًا أنَّ الحق في غير شريعة الله، أو سَوَّى بين شريعة الله وشريعة المخلوقِين فهو كافرٌ باللّه تعالى، إلا إذا كان مُكْرَهًا على ذلك أو وَقَعَ في ذلك جاهِلًا؛ لقوله سبحانه وتعالى:{لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة: ٤٤]، وقوله في الآية الأُخرى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[المائدة: ٤٥]، وقوله في الآية الثالثة:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[المائدة: ٤٧].
لأن الشَّارعَ - وهو الله سبحانه وتعالى - هو صاحب الحق في تشريع الأحكام وتقريرها، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو مُبَلِّغٌ لهذه الأحكام عن الله - سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة: ٦٧].
ومن أجل ذلك اشترَطَ اللَّهُ على عباده ثلاثةَ أمورٍ لكي يحققوا الإيمان الكامل، وهي المجموعة في قوله سبحانه وتعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)} [النساء: ٦٥]، أي: أن الإنسان ينبغي عليه الرجوع إلى
(١) أخرجه الترمذي (٥/ ١٢٩) عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي صليب من ذهب. فقال: "يا عدي، اطرح عنك هذا الوثن"، وسمعته يقرأ في سورة براءة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}، قال: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه". وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (٣٢٩٣).