للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا مقايسة؛ بل الأدلة صريحةٌ في هذا المقام، ولا تحتاج إلى هذا الذوق الذي أشار إليه المؤلف، أو إعمال الفكر أو الغوص في هذه الأقيسة لنتعرف؛ فلدينا أحاديث صافية صريحة بيضاء نقية كبياض الشمس، فلا نحتاج معها إلى غيرها.

قوله: (حَتَّى قَالَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاس: كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ).

هذه مسألة أخرى، وهذه لها قصة معروفة، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أرسل عددًا من أصحابه، وقال: "لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَد الْعَصْر إِلَّا فِي بَنِي قرَيْظَة" (١)؛ فانقسم الصحابة في فَهمِ هذا الحديث إلى قسمين؛ قسمٌ أخذوا بظاهر الحديث، يعني: لا تصلُّوا إلا إذا وصلتم إلى بني قريظة، وبعضهم كان أعمق في فهم المعنى، وأن قصد الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو حثُّهم وحضُّهم على الإسراع، لكن الصَلاة إذا وجبت فإنها تؤدَّى في أي مكان؛ فاجتهدوا، وأقرّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأمرين.

ولذلك جاء في الحديث الصحيح: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجرٌ واحد" (٢)؛ والمقصود بذلك إنما هو العالم، فإذا اجتهد العالم الحاكم في أمر من أمور الشريعة، فإن أصاب الحق ووُفِّق إليه فله أجران: أجر اجتهاده، وأجر إصابته الحق؛ وإن أخطأ فله أجر واحد؛ وهو أجر الاجتهاد، وهو على كلا الأمرين مثاب؛ لأنه أراد الوصول إلى الحق، فلم تكن له غاية غير الحق.

نحن نرى أن العلماء يختلفون، واختلافهم هذا ليس اختلاف تشفٍّ، لا يريد أحدهم عندما يخالف المسألة أن يشتهر لأنه خالف، ولذلك من أبدع الكلمات وأنصعها التي نُقلت عن الإمام الشافعي رَحِمهُ الله وهي تُكتب بماء الذهب وتُسجَّل له في سجل الخالدين، قال: "ما ناظرت أحدًا، وتمنيت أن أنتصر عليه؛ وإنما تمنيت أن يُظهِرَ الله الحق على يدي أو على


(١) أخرجه البخاري (٩٤٦).
(٢) أخرجه ابن الجارود في "المنتقى" (٩٩٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>