للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أولًا: لنعلم أن التَّبني (١) كان موجودًا، وهذا كان معروفًا في الجاهلية، وأن ذلك امتدَّ إلى أوَّل الإسلام، حتى نزلَ المنع من ذلك، وأسلوب القرآن إنما يأتي دائمًا للأخذ بمجامع القلوب، إنما يأتي ليُهيِّئ النفوس ويوطأها (٢) للأحكام كما رأينا ذلك في تحريم الخمر، وفي تحريم الربا، وفي بعض الأحكام؛ فالله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب، يقول: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٥)} [الأحزاب: ٤، ٥] انظروا إلى هذا التدرج، وهذه التوطئة، {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}، لا يوجد في أيِّ إنسانٍ، وما ذُكر فيما مضى أن فلانًا له قلبان، هذا كله حقيقة مما ذُكر ولا أصل له.

فالرجل إنما يوجد فيه قلبٌ واحد، ولا يوجد لرجلٍ واحد قلبان في جوفه، ثم بعد ذلك أتبع الله ذلك بأمرٍ آخر، {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ}، كوْن أحدكم يقول لزوجته: أنتِ عليَّ كظهر أمي (٣) هذا لا يجعل ذلك حكمًا مستقرًّا، فلا يجعلها كالأمِّ، كما قال الله سبحانه وتعالى: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: ٢]، ثم جاء بعد ذلك سبحانه وتعالى ليقرر الحكم؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد تبنى زيد بن حارثة، وكان يُعرف في أول الأمر ويُدعى: زيد بن محمد، فقال بعد ذلك سبحانه وتعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ}


(١) تبنيت فلانًا: اتخذته ابنًا. انظر: "مختار الصحاح" للرازي (ص ٤١).
(٢) "التوطئة": التمهيد والتذليل. انظر: "النهاية" لابن الأثير (٥/ ٢٠١).
(٣) "الظهار": قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وهي كلمة كانوا يقولونها، يريدون بها الفراق. وإنما اختصوا الظهر لمكان الركوب، وإلا فسائر أعضائها في التحريم كالظهر. انظر: "الزاهر" للأزهري (ص ٢١٨) "مقاييس اللغة" لابن فارس (٣/ ٤٧١).

<<  <  ج: ص:  >  >>