للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أصحاب المزارع، تجد أنه يحرث الأرض ثم يزرعها، وربما تأتي آفة من السماء، وربما تأتي دويبات فتهلكه عامًا بعد عام، ثم تتغير الأحوال ويبارك الله له.

فعلى الإنسان أن يتوكل على الله، والله -سبحان الله وتعالى- قد أحل البيع، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "أطيب ما أكل الرجل من كسبه" (١)؛ فأطيب ما يأكله الرجل من كسب يده.

وهؤلاء الأئمة الذين نقرأ الآن أقوالهم ماذا كانوا؟

كان أبو حنيفة (٢) خزازًا (٣)، وكان مِن آمن الناس في الاشتغال بعمل البزازة الذي نسميه القماش الآن؛ فهو رجل مشغول بالعلم، ومع ذلك عنده وإن، وكان يربح وينفق على تلاميذه؛ لأنهم كانوا قد وقفوا أنفسهم على طلب العلم، فهم يحضرون الدروس ولا وقت عندهم، فلم يكونوا كطلاب العلم الآن، بل كانوا يتحولون من درسٍ إلى درسٍ، ومن معلمٍ إلى معلمِ، فيصلون أيامهم بلياليهم، إلى وقت الراحة، يقرأَ الواحد منهم في اليومَ خمسة كتب أو أربعة أو ثلاثة، فلذلك كان علمهم غزيرًا متنوعًا؛ والآن قد تغير الشيوخ وتغير الطلاب أيضًا!

وهذه هي الحقيقة التي ينبغي ألا ننكرها؛ لأن الأذهان تشتتت وتوزعت وانصرفت، وكانوا فيما مضى يقفون أنفسهم على العلم ويندفعون إليه، ولم تكن هناك غايات غير طلب العلم؛ فالصورة إذًا قد تغيرت.


(١) أخرجه أبو داود (٣٥٢٨)، وغيره: عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أطيب ما اكل الرجل من كسبه؛ وإن ولد الرجل من كسبه"، وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (١٦٢٦).
(٢) قال أحمد العجلي: "أبو حنيفة … كان خزازا يبيع الخز". انظر: "الثقات" للعجلي (٢/ ٣١٤).
(٣) "الخز": ثياب تنسج من صوف وإبريسم. انظر: "النهاية" لابن الأثير (٢/ ٢٨)، و"تاج العروس" للزبيدي (١٣٦/ ١٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>