للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان الإمام أحمد يحمل على رأسه، ثم يأكل من عمله (١)، ولما ذهب ومعه زميله وقرينه وصديقه إسحاق بن راهويه، وكان إسحاق - وهو أيضًا صاحب مال - قد استأجر بيتًا في اليمن، فعرض على الإمام أحمد الإعانة فأبى (٢)، فكان يحمل فإذا حصل ما يسد جوعته أكله وانتهى. وكان أحدهم يبحث عن رزقه في يومه (٣)، والآن تجد الإنسان عنده المال الكثير ولا يكتفي به، وتغيرت الأحوال.

كان الأئمة يعملون ويأكلون من كسب أيديهم، وما أجمل هذا! وليس ذلك عيبًا؛ بل إن أبا بكر - رضي الله عنه - الصحابي الجليل خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يشتغل بالتجارة، فلما تولى الخلافة نزل السوق، فقال الصحابة: الآن وقتك ليس لك، وقتك لعمل المسلمين، فحُدِّد له نصيب يكفيه ويكفي أولاده (٤).

أصبح وقته أثمن من أن ينزل ويذهب إلى الأسواق، ويبيع ويشتري،


(١) قال صالح بن أحمد بن حنبل: "وكان أبي ربما أخذ القدوم وخرج إلى دار السكان، يعمل الشيء بيده". انظر: "سير أعلام النبلاء" للذهبي (١١/ ٢٠٩).
(٢) قال إسحاق بن راهويه: "لما خرج أحمد إلى عبد الرزاق، انقطعت به النفقة، فأكرى نفسه من بعض الجمالين إلى أن وافى صنعاء، وعرض عليه أصحابه المواساة، فلم يأخذ". انظر: "سير أعلام النبلاء" (١١/ ٢١٤).
(٣) قال الخلال: "عن إسحاق بن راهويه، قال: كنت مع أحمد بن حنبل عند عبد الرزاق، وكانت معي جارية، وسكنا فوق، وأحمد أسفل في البيت. فقال لي: يا أبا يعقوب، هو ذا يعجبني ما أسمع من حركتكم. قال: وكنت أطلع، فأراه يعمل التكك - وهي الأشياء التي تربط الإزار أو السراويل حتى لا تقع - يعملها، ويبيعها، ويتقوت بها، هذا أو نحوه". انظر: "سير أعلام النبلاء" (١١/ ١٩٣).
(٤) قال أبو بكر: "لا والله ما يصلح أمر الناس التجارة، وما يصلح لهم إلا التفرغ والنظر في شأنهم، وما بد لعيالي مما يصلحهم، فترك التجارة واستنفق من مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله يومًا بيوم، ويحج ويعتمر، وكان الذي فرضوا له كل سنة ستة آلاف درهم، فلما حضرته الوفاة قال: ردوا ما عندنا من مال المسلمين، فإني لا أصيب من هذا المال شيئًا". يُنظر: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (٣/ ١٨٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>