فإن أداء الأمانات واجب، وهذه صفة من صفات المؤمنين، فالمؤمن يحرص على أداء الأمانة، وهي صفة كريمة وموهبة عظيمة، وخلق جليل، إذا ما اتصف به إنسان أحرز رضى الناس وكان موضع ثقة فيهم، وفي آخر الزمان يبحث عن رجلٍ أمينٍ فيقال: في البلد الفلاني (١).
فهذا الذي أعطاك المال قد وثق بك، وينبغي أن تكون عند حسن ظنه، وأنت أمين على ذلك كالشريك مع شريكه، والوكيل بالنسبة لموكله، وولي اليتيم بالنسبة لليتيم، فعلى هذا المضارب أن يتقي الله -سبحانه وتعالى- في هذا المال، وأن يحافظ عليه، وألا يتصرف فيه إلا بما هو في مصلحة الطرفين.
علة من منع ذلك من أهل العلم هي أنه قد لا يعود إليه ماله؛ لأن الدين قد لا يأتي، قد يعسر صاحبه وقد يكون مماطلًا، وفريق من أهل العلم قال: لا؛ لأنه إذا أطلق فيدخل فيه الدين، ومعروف أن عادة الناس أن يبيعوا حالًّا ومؤجلًا، بل إن الربح عادة يكون أكثر في المؤجل، وهذه من المسائل التي يختلف فيها العلماء.
فكل مسألة لا نجد فيها نصًّا صريحًا عن الله -سبحانه وتعالى-، ولا عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - نرى فيها أن الخلاف يتشعب، ولكنه اختلاف - كما قلت
(١) معنى حديث أخرجه مسلم (١٤٣) عن حذيفة، قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين قد رأيت أحدهما، وأنا أنتظر الآخر؛ حدثنا: "أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة"، ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال: "ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط، فتراه منتبرًا وليس فيه شيء - ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله - فيصبح الناس يتبابعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان رجلًا أمينًا، … " الحديث.