للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما ما ذكروه من أن الأعمى لا يميز بين المُدَّعِي والمُدَّعَى عليه، فإن القَاضي عنده الكاتب، والملازم يخبره بأن هذا المدعي، وهذا المدعى عليه، بل إن بعض القضاة المكفوفين لمَا عندهم من شدة الذكاء والفطنة، يدرك ذلك من نطق المتكلم، فيعرفه بصوته، بل من المكفوفين مَنْ إذا سلم على إنسانٍ ولقيه بعد سنواتٍ، وأمسك يده دون أن يتكلم، يعرف أن هذا فلان، وقد شاهدنا من المكفوفين مَنْ يستطيع أن يسير في الطرق الدقيقة المعوجة فيعرفها أكثر مما يعرفها المبصر.

فالذي يظهر لي أن ما ذَهَب إليه الشافعية رحمهم الله يتفق مع الواقع، وإنْ كَانَ أكثر العلماء قالوا بخلافه، فإذا ما كان هذا الأعمى ذا بَصِيرَةٍ مدركًا واعيًا عالمًا فقيهًا، فليس ثَمَّ مانعٌ من توليه القضاء.

وقَدْ سبق ما يتعلق باختلاف العلماء في إمامة الأعمى، وأن هناك مَنْ لا يرى إمامته، وأكثر العلماء يرون صحة إمامته، ولكنهم مختلفون أيهما أفضل: الأعمى أم المبصر؟ فذهب بَعْضهم إلى أن المبصر أفضل؛ لأنه يتوقى النجاسات (١)، وذَهَب بعضهم إلى أنَّ الأعمى أفضل؛ لأنه لا يحرك طرفه إلى ما لا يجوز، فهو أكثر ورعًا، وأبعَدُ عن النظر إلى المُحرَّمات (٢).


(١) وهو مذهب المالكية، يُنظر: " حاشية الدسوقي " (١/ ٣٣٣) حيث قال: " (قوله: أفضل)، أي: لأنه أشد تحفظًا من النجاسات، وهذا هو المعتمد. وقيل: إن إمامة الأعمى المساوي الفضل للبصير أفضل؛ لأنه أخشَع لبُعْده عن الاشتغال. وقيل: إنهما سيَّان ".
(٢) وهو مذهب الشَّافعيَّة، يُنظر: " مغني المحتاج " للشربيني (١/ ٤٨٣) حيث قال: " (والأعمى والبصير) في الإمامة (سواء على النص) في الأُمِّ لتعارض فضيلتهما؛ لأنَّ الأعمى لا ينظر ما يشغله، فهو أخشع، والبصير ينظر الخبث، فهو أحفظ لتجنبه ".
ومذهب الحنفية والحنابلة كراهية إمامة الأعمى.
مذهب الحنفية، يُنظر: " الدر المختار " وحاشية ابن عابدين " رد المحتار " (١/ ٥٦٠): " قيد كراهة إمامة الأعمى في المحيط وغيره بألا يكون أفضل القوم، فإن كان أفضلهم فهو أولى. اهـ. ثم ذكر أنه ينبغي جريان هذا القيد في العبد والأعرابي وولد الزنا، ونازعه في النهر بأنه في الهداية علل للكراهة بغلبة الجهل فيهم، وبأن في تقديمهم تنفير الجماعة، ومقتضى الثانية ثبوت الكراهة مع انتفاء الجهل، لكن ورد =

<<  <  ج: ص:  >  >>