الحمد لله الذي استخلص الحمد لنفسه، واستوجبه على جميع خلقه، الذي ناصية كلّ شيء بيده، ومصير كل شيء إليه، القويّ في سلطانه، اللطيف في جبروته، لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع، خالق الخلائق بقدرته، ومسخّرهم بمشيئته، وفيّ العهد، صادق الوعد، شديد العقاب، جزيل الثواب؛ أحمده وأستعينه على ما أنعم به مما لا يعرف كنهه غيره؛ وأتوكل عليه توكّل المتسلم لقدرته، المتبري من الحول والقوّة إليه؛ وأشهد شهادة لا يشوبها شك أنه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، إلها واحدا صمدا، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له وليّ من الذل وكبّره تكبيرا، وهو على كل شيء قدير، قطع ادعاء المدّعي بقوله عز وجل: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ
«١» . وأشهد أنّ محمدا صلّى الله عليه وسلم صفوته من خلقه، وأمينه على وحيه، أرسله بالمعروف آمرا. وعن المنكر ناهيا، وإلى الحق داعيا؛ على حين فترة من الرسل، وضلالة من الناس، واختلاف من الأمور، وتنازع من الألسن، حتى تمم به الوحي، وأنذر به أهل الأرض.
أوصيكم عباد الله بتقوى الله؛ فإنها العصمة من كل ضلالة، والسبيل إلى كل نجاة؛ فكأنكم بالجثث قد زايلتها أرواحها، وتضمنها أجداثها، فلن يستقبل معمّر منكم يوما من عمره إلا بانتقاص آخر من أجله، وإنما دنياكم كفيء الظل أو زاد الراكب؛ وأحذركم دعاء العزيز الجبار عبده، يوم تعفي آثاره، وتوحش منه دياره، وييتم صغاره، ثم يصير إلى حفير من الأرض، متعفرا على خدّه، غير موسد ولا ممهد: أسأل الذي وعدنا على طاعته جنته، أن يقينا سخطه، ويجنّبنا نقمته، ويهب لنا رحمته. إنّ أبلغ الحديث كتاب الله.
وخطبة له رضي الله عنه:
أمّا بعد؛ فإنّ الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإنّ الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطّلاع، وإنّ المضمار اليوم والسباق غدا، ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجل؛