فلما كانت سنة خمس وخمسين كتب معاوية إلى سائر الأمصار أن يفدوا عليه، فوفد عليه من كل مصر قوم، وكان فيمن وقد عليه من المدينة محمد بن عمرو بن حزم، فخلا به معاوية وقال له: ما ترى في بيعة يزيد؟
فقال: يا أمير المؤمنين، ما أصبح اليوم على الأرض أحد هو أحب إليّ رشدا من نفسك سوى نفسي، وإن يزيد أصبح غنيا في المال، وسطا في الحسب، وإن الله سائل كلّ راع عن رعيته، فاتق الله وانظر من تولّي أمة محمد.
فأخذ معاوية بهر «١» حتى تنفس الصعداء وذلك في يوم شات، ثم قال: يا محمد، إنك امرؤ ناصح قلت برأيك، ولم يكن عليك إلا ذاك. قال معاوية: إنه لم يبق إلا ابني وأبناؤهم، فابني أحبّ إليّ من أبنائهم؛ اخرج عني! ثم جلس معاوية في أصحابه وأذن للوفود فدخلوا عليه وقد تقدّم إلى أصحابه أن يقولوا في يزيد، فكان أول من تكلم الضحاك بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لا بد للناس من وال بعدك، والأنفس يغدى عليها ويراح، وإن الله قال: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ
«٢» ، ولا ندري ما يختلف به العصران؛ ويزيد ابن أمير المؤمنين في حسن معدنه وقصد «٣» سيرته، من أفضلنا حلما وأحكمنا علما، فولّه عهدك، واجعله لنا علما بعدك، فإنا قد بلونا الجماعة والألفة، فوجدناها أحقن للدماء، وآمن للسبل، وخيرا في العاقبة والآجلة.
ثم تكلم عمرو بن سعيد فقال:
أيها الناس، إن يزيد أمل تأملونه، وأجل تأمنونه، طويل الباع، رحب الذراع إذا صرتم إلى عدله وسعكم، وإن طلبتم رفده أغناكم؛ جدع قارح «٤» ، سوبق فسبق، وموجد فمجد، وقورع فقرع، فهو خلف أمير المؤمنين ولا خلف منه.