واعلم أن من كان مرجعه اغتصاب نظم من تقدمه، واستضاءته بكوكب من سبقه، وسحب ذيل حلة غيره، ولم تكن معه أداة تولّد له من بنات ذهنه، ونتائج فكره، الكلام الجزل والمعنى الحفل، لم يكن من الصناعة في عير ولا نفير «١» ، ولا ورد ولا صدر؛ على أن سماع كلام الفصحاء المطبوعين، ودرس رسائل المتقدمين، هو على كل حال مما يفتق اللسان، ويقوي البيان، ويحد الذّهن، ويشحذ الطبع، إن كانت فيه بقية وهناك خبيّة.
واعلم أن العلماء شبهت المعاني بالأرواح والألفاظ بالأجساد واللباب، فإذا كتب الكاتب البليغ المعنى الجزل، وكساه لفظا حسنا، وأعاره مخرجا سهلا، ومنحه دلا مونقا- كان في القلب أحلى، وللصدر أملى؛ ولكنه بقي عليه أن يؤلفه مع شقائقه وقرائنه، ويجمع بينه وبين أشباهه ونظائره، وينظمه في سلكه، كالجوهر المنثور:
الذي إذا تولى نظمه الناظم الحاذق، وتعاطى تأليفه الجوهريّ العالم، ظهر له بأحكام الصنعة ولطيف الحكمة حسنا هو فيه، وكساه ومنحه بهجة هي له، وكذلك كلما احلولى الكلام وعذب وراق وسهلت مخارجه، كان أسهل ولوجا في الأسماع، وأشدّ اتصالا بالقلوب، وأخف على الأفواه؛ لا سيما إذا كان المعنى البديع مترجما بلفظ مونق شريف، لم يسمه التكلف بميسمه، ولم يفسده التعقيد باستهلاكه، كقول ابن أبي كريمة:
قفاه وجه، والذي وجهه ... مثل قفاه يشبه الشّمسا
فهجّن المعنى بتعقد مخارج الألفاظ؛ وأخذه الحسن بن هانيء فأوضحه وسهله قال:
بأبي أنت من غزال غرير ... بزّ حسن الوجوه حسن قفاكا «٢»