للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بأحاديث حسان، ولقد كثر تعجبي من أن يكون أحد من التجار يحفظ مثل هذا، وإنما هذا من أحاديث الملوك، وما لا يتحدّث به إلا عند ملك أو خليفة. فقلت:

جعلت فداك، كان لي جار ينادم بعض الملوك، وكان حسن المعرفة كثير الحفظ؛ فكان ربما تعطل عن نوبته التي كان يذهب فيها إلى دار صاحبه؛ لشغل يمنعه من ذلك، أو لأمر يقطع، فأمضى إليه، وأعزم عليه، وأصيّره إلى منزلي؛ فربما أخبرني من هذه الأحاديث شيئا، إلى أن صرت من خاصة أخدانه وممن كان لا يفارقه؛ فما سمعت مني فمنه أخذته، وعنه استفدته. فقالت: يجب أن يكون هذا كذا. ولعمري لقد حفظت فأحسنت الحفظ، وما هذا إلا لقريحة جيدة وطبع كريم. قال إسحاق:

وأخذنا في الشراب والمذاكرة: أبتديء الحديث، فإذا فرغت ابتدأت هي في آخر، حتى قطعنا بذلك عامة الليل، والندّ «١» وفائق البخور يجدّد، وأنا في حالة لو توهمها المأمون أو تأملها لاستطار سرورا وفرحا.

ثم قالت لي: يا فلان- وكنت قد غيرت عليها اسمي وكنيتي- واللَّه إني لأراك كاملا، وإنك في الرجال لفاضل، وإنك لوضيء الوجه، مليح الشكل، بارع الأدب؛ وما بقي عليك إلا شيء واحد حتى تكون قد برّزت وبرعت. فقلت: وما هو يا سيدتي، دفع اللَّه الأسواء عنك؟ قالت: لو كنت تحرّك بعض الملاهي، أو تترنم ببعض الأشعار. فقلت: واللَّه [إني كنت] قديما أشتهيه، وطالما كلفت به وحرصت عليه، فلم أرزقه ولا يعلق بي شيء منه؛ فلما طال عنائي به، وكلما تقدمت في طلبه كنت منه أبعد وعنه أذهب، تركته وأعرضت عنه، وإن في قلبي من ذلك لحرقة، وإني لمستهتر به مائل إليه، وما أكره أن أسمع في مجلسي هذا من جيّده شيئا؛ لتكمل ليلتي ويطيب عيشي! قالت: كأنك قد عرّضت بنا. قلت: لا واللَّه ما هو تعريض، وما هو إلا تصريح؛ وأنت بدأت بالفضل، وأنت أولى من أتمّ ما بدأ به.

فقالت: يا جارية: عود. فأحضرت عودا، فأخذته، فما هو إلا أن جسّته حتى ظننت أن الدار قد سارت بي وبمن فيها، واندفعت تغني، مع صحة أداء وجودة صوت.