وأقام الرجل كذلك علاقات طيبة مع عبد الرحمن بن محمد الملقّب بالملك الناصر، الذي بنى مدينة الزهراء، ومدحه بقصائد كثيرة منها قصيدته الرائعة التي أدرجها في المجلد الثالث من العقد. وابن عبد ربه الذي يقول فيه الثعالبي النيسابوري صاحب يتيمة الدهر إنّه «أحد محاسن الأندلس علما وفضلا وأدبا ومثلا، وشعره في نهاية الجزالة والحلاوة، وعليه رونق البلاغة والطلاوة» أصيب آخر أعوامه بالفالج، كما أصيب الجاحظ من قبله، وأبو الفرج الأصبهاني من بعده، وتوفي يوم الأحد لثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادي الأولى سنة ٣٢٨ هجرية وهو ابن إحدى وثمانين سنة وثمانية أشهر وثمانية أيّام ودفن في اليوم التالي لوفاته ...
هذه لمحة موجزة عن حياة الرجل، أما عن أعماله الأدبية فقد كان «العقد» أكثر كتبه شهرة، وقد تحدّث نفسه عن تسميته بهذا الاسم فقال:«وسمّيته كتاب العقد الفريد لما فيه من مختلف جواهر الكلام، مع دقة المسلك وحسن النظام» وقد اعتمد كما لاحظنا في تأليفه واختياره لموضوعاته وأخباره على مصادر كثيرة، منها ما هو ديني كالقرآن والانجيل والتوراة، والحديث النبويّ الشّريف، ومنها ما هو أدبيّ وتاريخيّ، كعيون الأخبار، والمعارف لابن قتيبة، والحيوان، والبخلاء، والبيان والتبيين، للجاحظ، والكامل للمبرّد وكليلة ودمنة والأدب الكبير والصغير لابن المقفّع، والأمالي لأبي عليّ القالي، ودواوين كثيرة لشعراء جاهليين وإسلاميين، وغير ذلك من الكتب التي تناولتها يداه ...
وقد قسّم الرجل كتابه إلى فنون عديدة، وضمّنه خمسة وعشرين كتابا انفرد كلّ كتاب منها باسم جوهرة من جواهر العقد «بحيث يقع على كلّ من جانبي واسطة العقد، اثنتا عشرة جوهرة، كلّ منها سمّيت باسم التي تقابلها من الجانب الآخر، وبذلك تكون أولى جواهر العقد وآخره على اسم واحد، ففي العقد لؤلؤتان وزبرجدتان وياقوتتان وجمانتان وهلمّ جرّا» وقد أشار ابن عبد ربّه في مقدمة كتابه إلى ذلك فقال: «وجزّأته على خمسة وعشرين كتابا كلّ كتاب منها جزآن، فتلك خمسون جزءا في خمسة وعشرين كتابا» .