للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الأحاديثُ في البابِ كثيرةٌ وفيها دلالةٌ على تعذيبِ الميتِ بسببِ النياحةِ عليهِ. وقدِ استشكلَ ذلكَ لأنهُ تعذيبُه بفعلِ غيرِهِ، واختلفتِ الجواباتُ، فأنكرتْ عائشةُ (١) ذلكَ على عمرَ وابنهِ عبدِ اللَّهِ، واحتجتْ بقولهِ تعالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (٢)، وكذلكَ أنكرهُ أبو هريرةَ، واستبعدَ القرطبي إنكارَ عائشةَ، وذكرَ أنهُ رواهُ عدةٌ منَ الصحابةِ فلا وجهَ لإنكارِها معَ إمكانِ تأويلهِ، ثمَّ جمعَ القرطبي بينَ حديثِ التعذيبِ والآيةِ بأنْ قالَ: حال البرزخِ يلحقُ بأحوالِ الدنيا، وقدْ جَرى التعذيبُ فيها بسبب ذنب الغيرِ كما يشيرُ إليه قولُه تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (٣)، فلا يعارضُ حديثَ التعذيبِ آيةُ: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (٤)، لأنَّ المرادَ بها الإخبارُ عنْ حالِ الآخرةِ، واستقواهُ الشارحُ. وذهبَ الأكثرونَ إلى تأويلهِ بوجوهٍ:

الأولُ: للبخاريِّ أنهُ يعذَّبُ بذلكَ إذا كان سنتُهُ وطريقتُهُ. وقدْ أقرَّ أهلَه عليهِ في حياتهِ، فيعذَّبُ لذلكَ، وإنْ لمْ يكنْ طريقتُه فإنهُ لا يعذَّبُ، فالمرادُ علَى هذَا أنهُ يعذبُ ببعضِ بكاءِ أهلهِ، وحاصلُه أنهُ قدْ يعذَّبُ العبدُ بفعلِ غيرهِ إذا كانَ لهُ فيهِ سببٌ.

الثاني: [أن] (٥) المرادَ أنهُ يعذَّبُ إذا أَوْصَى بأنْ [يناح] (٦) عليهِ، وهوَ تأويلُ الجمهورِ، قالُوا: وقدْ كانَ معروفًا عندَ القدماءِ كما قالَ طَرَفَةُ بنُ العبدِ (٧):

إذا متُّ فابكيني بما أنا أهلُهُ … وشُقِّي عليَّ الجيبَ يا أمَّ مَعْبَدِ

ولا يلزمُ منْ وقوعِ النياحةِ منْ أهلِ الميتِ امتثالًا لهُ أنْ لا يعذَّبَ لوْ لم


(١) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري (٣٧٥٩ - البغا)، ومسلم (٩٣١ و ٩٣٢).
والحديث الذي أخرجه البخاري (١٢٢٦ - البغا)، ومسلم (٩٢٧ و ٩٢٨ و ٩٢٩).
(٢) سورة الأنعام: الآية ١٦٤.
(٣) سورة الأنفال: الآية ٢٥.
(٤) سورة الأنعام: الآية ١٦٤.
(٥) زيادة من (أ).
(٦) في (ب): "يبكي".
(٧) طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد، البكري الوائلي، أبو عمرو، شاعر جاهلي، من الطبقة الأولى. ولد في بادية البحرين، وتنقل في بقاع نجد … وكان هجاءً غير فاحش القول، تفيض الحكمة على لسانه في أكثر شعره. [الأعلام (٣/ ٢٢٥)].