للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

"نهى النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن الوصالِ وليسَ بالعزيمةِ". ويدلُّ أيضًا مواصلةُ الصحابةِ فَرَوَى ابنُ أبي شيبةَ (١) بسندٍ صحيحٍ: "أنَّ ابنَ الزبيرِ كانَ يواصلُ خمسةَ عشر يومًا"، وذكرَ ذلكَ عنْ جماعةٍ غيرهِ، فلوْ فهمُوا التحريم لما فعلُوهَ. ويدلُّ للجوازِ أيضًا ما أخرجهُ ابنُ السكنِ (٢) مرفوعًا: "إنَّ الله لم يكتبِ الصيامَ بالليلِ فمنْ شاءَ فليتبعني ولا أجْرَ لهُ"، قالُوا: والتعليلُ بأنهُ منْ فعلِ النَّصَارى لا يقتضي التحريم؛ فإنه قد علل تأخير الإفطار من فعل أهل الكتاب ولم يقتضِ التحريم. واعتذرَ الجمهورُ عنْ مواصلتهِ - صلى الله عليه وسلم - بالصحابةِ بأنَّ ذلكَ كانَ تقريعًا لهم وتنكيلًا بهمْ، واحتُمِلَ جوازُ ذلكَ لأجلِ مصلحةِ النَّهْي في تأكيدِ زجرِهم، لأنهمْ إذا باشروهُ ظهرتْ لهم حكمةُ النَّهي، وكان ذلكَ أَدْعَى إلى قبولهِ لما يترتبُ عليهِ منْ المللِ في العبادةِ، والتقصيرِ فيما هوَ أهمُّ منهُ وأرجحُ منْ وظائفِ العباداتِ. والأقربُ منَ الأقوالِ هوَ التفصيلُ.

وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: "وأيُّكم مِثلي" استفهامُ إنكارٍ وتوبيخٍ، أي: أيكمْ على صفتي ومنزلتي منْ ربِّي. واختُلِف في قولِه: "يُطعِمُني ويُسْقِيني"، فقيلَ: هوَ على حقيقتهِ كانَ يُطْعَمُ ويُسقَى منْ عندِ اللهِ، وتعقِّبَ بأنهُ لو كانَ كذلكَ لم يكنْ مواصلًا. وأجيبَ عنهُ بأنَّ ما كانَ منْ طعامِ الجنةِ على جهةِ التكريمِ، فإنهُ لا ينافي التَّكليفَ، ولا يكونُ لهُ حكمُ طعامِ الدنيا. وقالَ ابنُ القيم (٣) رحمهُ الله: المرادُ ما يغذيه اللهُ منْ معارفِهِ وما يقيضهُ على قلبهِ منْ لذةِ مناجاتِه، وقُرَّةِ عينهِ بقربهِ، وتَنَعُّمِهِ بحبِّهِ، والشوقِ إليهِ، وتوابعُ ذلكَ منَ الأحوالِ التي هي غذاءُ القلوبِ، وتنعيمُ الأرواحِ، وقرةُ العينِ، وبهجةُ النفوسِ. وللقلبِ والروحِ بها أعظمُ غذاءٍ وأجودُه وأنفعهُ. وقد يقوِّي هذا الغذاءُ حتَّى يغني عن غذاءِ الأجسامِ برهةً منَ الزمانِ كما قيل:

لَها أحَادِيثُ مِنْ ذِكْراكَ تَشْغَلُهَا … عَنِ الشَّرَابِ وتُلْهِيْهَا عَنِ الزَّادِ

لَها بِوَجْهِكَ نُورٌ يُستضاءُ بهِ … وَمِنْ حَدِيثكَ في أعقْابِهَا حَادِي

وَمَنْ لهُ أَدْنَى معرفةٍ وشوقٍ يعلمُ استغناءَ الجسمِ بغذاءِ القلبِ والروحِ عنْ كثيرٍ منَ الغذاءِ الحيوانيّ، ولا سيَّما المسرورُ الفرحانُ الظافرُ بمطلوبهِ الذي قرَّتْ


(١) في "المصنف" (٣/ ٨٤) بسند صحيح.
(٢) عزاه إليه الحافظ في "الفتح" (٤/ ٢٠٢).
(٣) في "زاد المعاد" (٢/ ٣٢ - ٣٣).