للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

عداه فهو القليل، وقالت الشافعية: بل الكثير ما بلغ قُلَّتَيْنِ مِنْ قِلالِ هَجَر (١)؛ وذَلكَ نحوُ خمسمائَةِ رطْلٍ، عملًا بحديثِ القُلَّتَيْنِ، وما عداهُ فهُوَ القليلُ (٢).

ووجْهُ هذا الاختلافِ تعارُضُ الأحاديثِ التي أسلفناها، فإنَّ حديثَ الاستيقاظِ، وحديثَ الماءِ الدائمِ، يقتضيانِ أن قليلَ النجاسَةِ يُنَجِّسُ قليلَ الماءِ، وكذلكَ الولوغُ، والأمرُ بإراقَةِ ما وُلغَ فيهِ، وعارضَها حديثُ بولِ الأعرابيِّ، والأمْرُ بِصَبِّ ذَنُوبٍ مِنْ ماءٍ عليهِ؛ فإنهُ يقتضي أن قليلَ النجاسَةِ لا ينجِّسُ قليلَ الماءِ. ومنَ المعلومِ أنَّهُ قدْ طُهِّرَ ذلكَ الموضِعُ الذي وَقَعَ فيه بولُ الأعرابيِّ بذلكَ الذَّنوبِ.

وكذلكَ قولُهُ: "الماءُ طهور لا يُنَجِّسُهُ شَيءٌ"، فقالَ الأوَّلونَ وهُمُ القائلونَ لا يُنَجِّسُهُ شَيءٌ إلَّا ما غيَّر أحدَ أوصافه: يُجمعُ بين الأحاديث بالقول بأنه لا يُنَجِّسُهُ شيءٌ كمَا دلّ لَهُ هذا اللفظُ، ودلَّ عليهِ حديثُ بولِ الأعرابيِّ، وأحاديثُ الاستيقاظِ والماءِ الدائمِ والولوغِ ليستْ واردةً لبيانِ حكمِ نجاسَةِ الماءِ، بل الأَمْرُ باجتنابها تَعَبُّدِيٌّ لا لأجلِ النجاسَةِ، وإنما هُوَ لمعنًى لا نعرفه كعدَمِ معرفتنَا لحكمةِ أعدادِ الصلوات ونحوِها، وقيلَ: بل النهيُ في هذهِ الأحاديثِ للكراهَةِ فقط. وهي طاهِرَةٌ مُطَهّرَةٌ.


(١) يشير المؤلف رحمه الله إلى الحديث الضعيف الذي أخرجه ابن عدي في "الكامل" (٦/ ٢٣٥٨) عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كان الماءُ قُلَّتَيْنِ من قلال هجر لم ينجِّسْه شيء". وفيه "المغيرة بن سقلاب" ضعيف. وقال ابن عديّ: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (١/ ٢٩) عن المغيرة: هذا منكر الحديث، ثم قال (١/ ٣٠): والحديث غير صحيح.
(٢) وقد قال الإمامُ البغويُّ في "شرح السنةِ" (٢/ ٥٩ - ٦٠):
وقدَّر بعضُ أصحاب الرأي الماءَ الكثيرَ الذي لا يَنجُس بأنْ يكونَ عشرَةَ أذرْع في عشرَة أَذْرُع، وهذا تحديدٌ لا يَرْجِعُ إلى أصْل شرعي يُعْتَمدُ عليه.
قُلْثُ: أما الحديث الذي أخرجَه ابن ماجهْ (٢/ ٨٣١)، والدارميُّ (٢/ ٢٧٣) عَنْ عبدِ اللَّهِ بن فغَفَّل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من حفر بئرًا فله أربعونَ ذراعًا عطنًا لماشيته". وهو حديثٌ حسنٌ فلا دليل فيه على تحديد الماءِ الكثير الذي لا ينجس بأن يكونَ عشرَة أذرع في عَشرة أذْرع، لأن الواضح من الحديث أن حريمَ البئرِ مِنْ كلِّ جانب أربعونَ ذراعًا. اهـ. ثم قال البغويُّ: وَحَدَّهُ بعضهُمْ بأن يكونَ في غدير عظيم بحيث لو حُرِّكَ منهُ جانبٌ لم يضطربْ منهُ الجانب الآخَرُ. وهذا في غاية الجهالةِ لاختلافِ أحوال المحرِّكين في القوةِ والضعف". اهـ.