للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وجمعت الشافعيةُ بَيْنَ الأحاديثِ بأنَّ حديث: "لا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ" محمولٌ على ما بلغَ القُلَّتَيْنِ فما فوقَهُمَا وهو كثيرٌ، وحديثَ الاستيقاظِ، وحديثَ الماءِ الدائم محمولٌ على القليلِ. وعندَ الهادويةَ أَنَّ حديثَ الاستيقاظِ محمولٌ على النَّدْبِ، فلا يجبُ غَسْلُهُما لَهُ.

وقالت الحنفية: المرادُ بلا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ، الكثيرُ الذِي سَبَقَ تحديدُهُ، وقدحوا في حديثٍ القُلَّتَيْنِ بالاضطرابِ. كذلك أعلَّهُ الإمامُ المهديُ في البحر (١)، وبعضُهُمْ تأوَّلهُ، وبقية الأحاديثِ في القليلِ، ولكنَّهُ وارد عليهم حديثُ بولِ الأعرابيِّ؛ فإنَّهُ كما عرفْتَ دلَّ على أنَّه لا يَضُرُّ قليلُ النجاسَةِ قليلَ الماءِ فدفعتهُ الشافعيةُ بالفرق بين ورودِ الماءِ على النجاسةِ، وورودها عليهِ؛ فقالوا: إذا وردتْ على الماء نجَّستْهُ كما في حديثٍ الاستيقاظِ، وإذا وردَ عليها الماءُ لم تضره كما في خبر بول الأعرابيَّ.

وفيه بحث حقَّقْناهُ في حواشي "شرح العمدةِ"، وحواشي "ضوءِ النَّهار" (٢).

وحاصلُهُ أنَّهُم حكموا أنَّهُ إذا وردَتِ النجاسَةُ على الماءِ القَليلِ نجَّسَتهُ، وإذا وردَ عليها الماءُ القليلُ لم يَنجُسْ؛ فجعلوا عِلَّةَ عدمِ تنجيس الماءِ الورودَ على النجاسةِ، وليسَ كذلكَ، بل التحقيقُ أنَّهُ حينَ يردُ الماءُ على النجاسةِ يردُ عليها شيئًا فشيئًا حتى يفني عينَها، وتذهبَ قبلَ فنائهِ، فلا يأتي آخرُ جزءٍ من الماءِ الواردِ على النجاسةِ إلا وقدْ طَهُرَ المحلُّ الذي اتصلتْ بهِ، أو بقيَ فيه جزءٌ منها يَفْنَى ويَتَلاشى عندَ ملاقاةِ آخرِ جُزْءٍ منها يردُ [عليها من] (٣) الماء، كما تَفْنَى النجاسةُ وتَتَلاشى إذا وردتْ على الماءِ الكثيرِ بالإجماعِ؛ فلا فرقَ بينَ هذا وبينَ الماء الكثيرِ في إِفناءِ الكلِّ للنجاسةِ؛ فإنَّ الجُزْءَ الأخيرَ من الوارد على النجاسةِ يُحيلُ عينَها لكثرتِهِ بالنسبةِ إلى ما بقيَ مِنَ النجاسةِ؛ فالعلةُ في عدم تنجيسه بوروده عليها هي كثرته بالنسبة إليها، لا الورود؛ فإنه لا يعقل التفرقة بين الورودين بأن أحدهما ينجسه دونَ الآخرِ.


(١) أي "البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار" (١/ ٣٢ - ٣٣).
قلتُ: فالحديث صحيح والاضطراب مدفوعٌ كما سيأتي تخريجه رقم (٤).
(٢) (١/ ١٤٢ - ١٤٣).
(٣) من النسخة (ب).