للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

قالَ ابنُ العربيِّ: النذرُ شبيهٌ بالدعاءِ، فإنهُ لا يردُّ القدرَ لكنَّه منَ القدرِ، وقدْ ندبَ إلى الدعاءِ ونَهَى عن النذرِ، لأنَّ الدعاءَ عبادةٌ عاجلةٌ، ويظهرُ بهِ التوجُّهُ إلى اللهِ تعالى والخضوعُ والتضرُّعُ، والنذرُ فيهِ تأخيرُ العبادةِ إلى حينِ الحصولِ، وتركُ العملِ إلى حينِ الضرورة اهـ.

قلتُ: القولُ بتحريمِ النذَرِ هوَ الذي دلَّ عليهِ الحديثُ، ويزيدُه تأكيدًا تعليلُه بأنهُ لا يأتي بخيرٍ، فإنهُ يصيرُ إخراجُ المالِ فيهِ منْ بابِ إضاعةِ المالِ، وإضاعةُ المالِ محرَّمةٌ، فيحرُمُ النذرُ بالمالِ كما هوَ ظاهرُ قولِه: "وإنَّما يُستخرجُ بهِ منَ البخيلِ". وأما النذرُ بالصلاةِ والصيامِ والزكاةِ والحجِّ والعمرةِ ونحوِها منَ الطاعاتِ فلا يدخل في النَّهْي، ويدلُّ لهُ ما أخرجَهُ الطبرانيُّ (١) بسندٍ صحيح عنْ قتادةَ في قولهِ تعالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} (٢)، قالَ: كانُوا ينذرونَ طاعة منَ الصلاةِ [والصيامِ] (٣)، وسائرِ ما افترضَ اللَّهُ عليهمْ، وهوَ إنْ كانَ أثرًا فهوَ يقوِّيهِ ما ذُكِرَ في سببِ نزولِ الآيةِ. هذا وأما النذورُ المعروفةُ [في] هذهِ الأزمنةِ على القبورِ، والمشاهدِ، والأمواتِ، فلا كلامَ في تحريْمِها لأنَّ الناذِرَ يعتقدُ في صاحبِ القبرِ أنهُ ينفعُ ويضر، ويجلبُ الخيرَ ويدفعُ الشرَّ، ويعافي الأليمَ، ويشفي السقيمَ، وهذا هوَ الذي كانَ يفعلُهُ عُبَّادُ الأوثانِ بعينِه، فيحرمُ كما يحرمُ النذرُ على الوثنِ، ويحرمُ قبضُه لأنهُ تقريرٌ على الشركِ، ويجبُ النهيُ عنهُ [وإبانةُ أنهُ] (٤) مِنْ أعظمِ المحرَّماتِ، وأنهُ الذي كانَ يفعلُه عُبَّادُ الأصنامِ، لكنْ طالَ الأمدُ حتى صارَ المعروفُ منكرًا، والمنكرُ معروفًا. وصارتْ تُعْقَدُ الولايات لقبَّاضِ النذورِ على الأمواتِ، ويُجعلُ للقادمينَ إلى محلِّ الميتِ الضيافاتُ، وينحرُ في بابِه النحائرُ منَ الأنعامِ، وهذا هوَ بعينِه الذي كانَ عليهِ عبَّادُ الأصنامِ، فإنا للَّهِ وإنا إليهِ راجعونَ، وقدْ أشبَعْنا الكلامَ في هذا في رسالةِ: "تطهير الاعتقاد عنْ درَنِ الإلحادِ" (٥).


(١) أخرجه الطبري في "جامع البيان" (١٤/ ج ٢٩/ ٢٠٨) بسند صحيح. وعزو الأثر للطبراني وهم.
(٢) سورة الإنسان: الآية ٧.
(٣) زيادة من (ب).
(٤) في (أ): "أو بأنه".
(٥) وقد أكرمني الله بتحقيقها وتخريج أحاديثها والتعليق عليها على مخطوطتين. ط مكتبة ابن تيمية، القاهرة.