للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

وورعُ الصالحينَ وهوَ تركُ ما [لم] (١) يتطرقْ إليهِ احتمالُ التحريم بشرطِ أنْ يكونَ لذلكَ الاحتمالِ موقعٌ، وإلا فهوَ ورعُ الموسوَسينَ. وقدْ بوَّبَ لهُ البخاريُّ (٢) فقالَ: (بابُ مَنْ لم يرَ الوسواسَ في الشبهاتِ) كمن يمتنعُ منْ أكلِ الصيدِ خشيةَ أنْ يكونَ انفلتَ منْ إنسانٍ، وكمنْ تركَ شراءَ [ما] (٣) يحتاجُ إليهِ منْ مجهولٍ لا يدري أمالُه حرامٌ أم حلالٌ، ولا علامةَ تدلُّ على ذلكَ التحريمِ، وكمنْ تركَ تناولَ شيء لخبرٍ وردَ فيهِ متفقٌ على ضعفهِ، ويكونُ دليلُ إباحتِه قويًا وتاويلُه ممتنعٌ أو مستبعدٌ، والكلامُ في الحديثِ متسعٌ وفي هذا كفايةٌ. قولهُ: "لكلِّ ملكٍ حِمًى" إخبارٌ عما كانتْ عليهِ ملوكُ العربِ وغيرُهم، فإنهُ كانَ لكلِّ واحدٍ حِمَى يحميهِ منَ الناسِ ويمنعُهم عنْ دخولِه، فمنْ دخلَه أوقعَ بهِ العقوبةَ، ومنْ أرادَ نجاةَ نفسِه منَ العقوبةِ لم يقرْبهُ خوفًا منَ الوقوعِ فيهِ، وذكرَ هذا كضربِ المثلِ للمخاطبين، ثمَّ أعلمَهُم أن حمى الله تعالَى [هو] (٤) الذي حرَّمه على العبادِ. وقولُه: "ومنْ وقعَ في الشبهاتِ إلخ"، أي: منْ وقعَ فيها فقدْ حامَ حولَ الحمى فيقربُ ويشرع أنْ يقعَ فيهِ. وفيهِ إرشادٌ إلى البعدِ عنْ ذرائعِ الحرامِ وإن كانتْ غيرَ محرَّمةٍ، فإنهُ يخافُ منَ الوقوعِ فيها الوقوعُ [في الحرام] (٥)، فمنِ احتاطَ لنفسهِ لا يقربُ الشبهاتِ لئلَّا يدخلَ في المعاصي: ثم أخبرَ - صلى الله عليه وسلم - منبِّهًا مؤكَّدًا أن في الجسدِ مضغةً، وهي القطعةُ منَ اللحمِ سُمِّيتْ بذلكَ لأنَّها تمضغُ في الفمِ لصغَرِها، وأنَّها معَ صِغَرِها عليها مدارُ [صلاحِ الجسدِ] (٦) وفسادِه، فإنْ صلحتْ صلُحَ وإنْ فسدتْ فسدَ. [ثم قال: ألا وهي القلب] (٧). وفي كلامِ الغزاليِّ (٨) أنهُ لا يرادُ بالقلبِ هذه المضغةُ؛ إذْ هيَ موجودةٌ للبهائمِ مدركَةٌ بحاسةِ البصرِ، بلِ المرادُ من القلبِ لطيفةٌ ربانيةٌ روحانيةٌ لها بهذا القلبِ الجسمانيِّ تعلُّقٌ، وتلك اللطيفةُ هي حقيقةُ الإنسانِ وهيَ المدرِكَةُ العارِفةُ منَ الإنسانِ، وهوَ المخاطَبُ والمعاقَبُ والمطالَبُ، ولهذهِ اللطيفةِ علاقةٌ معَ القلبِ الجسمانيِّ، وذكرَ أن جميعَ الحواسِّ والأعضاءِ أجنادٌ


(١) زيادة من (أ).
(٢) في "صحيحه" (٤/ ٢٩٤) الباب (٥).
(٣) في (أ): "مما".
(٤) زيادة من (أ).
(٥) في (ب): "فيه".
(٦) في (أ): "كله في صلاحه وفساده".
(٧) زيادة من (أ).
(٨) انظر: "الإحياء" (٣/ ٥).