هم أعلم خلقك بك، وأخوفهم لك، وأقومهم بطاعتك، ليس يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول؛ لم يسكنوا الأصلاب، ولم تضمّهم الأرحام؛ أنشأتهم إنشاء، وأسكنتهم سمواتك، وأكرمتهم بجوارك، وائتمنتهم على وحيك، وجنبتهم الآفات، ووقيتهم السيئات، وطهرتهم من الذنوب؛ فلولا تقويتك لم يقووا، ولولا تثبيتك لم يثبتوا، ولولا رهبتك لم يطيعوا، ولولاك لم يكونوا؛ أما إنهم على مكانتهم منك، ومنزلتهم عندك، وطول طاعتهم إياك- لو يعانون ما يخفي عليهم لاحتقروا أعمالهم، ولعلموا أنهم لم يعبدوك حقّ عبادتك؛ فسبحانك خالقا ومعبودا ومحمودا، بحسن بلائك عند خلقك! أنت خلقت ما دبرته مطعما ومشربا، ثم أرسلت داعيا إلينا، فلا الداعي أجبنا، ولا فيما رغّبتنا فيه رغبنا، ولا إلى ما شوّقتنا إليه اشتقنا؛ أقبلنا كلنا على جيفة نأكل منها ولا نشبع وقد زاد بعضنا على بعض حرصا لما يرى بعضنا من بعض، فافتضحنا بأكلها واصطلحنا على حبها، فأعمت أبصار صالحينا وفقهائنا، فهم ينظرون بأعين غير صحيحة، ويسمعون بآذان غير سميعة، فحيثما زالت زالوا معها، وحيثما مالت أقبلوا إليها، وقد عاينوا المأخوذين على الغرّة كيف فجأتهم الأمور، ونزل بهم المحذور، وجاءهم من فراق الأحبة ما كانوا يتوقعون، وقدموا من الآخرة ما كانوا يوعدون: فارقوا الدنيا وصاروا إلى القبور، وعرفوا ما كانوا فيه من الغرور، فاجتمعت عليهم حسرتان: حسرة الفوت «١» وحسرة الموت، فاغبرت لها وجوههم وتغيرت بها ألوانهم، وعرقت بها جباههم، وشحصت أبصارهم، وبردت أطرافهم، وحيل بينهم وبين المنطق، وإن أحدهم لبين أهله، ينظر ببصره، ويسمع بأذنه؛ ثم زاد الموت في جده حتى خالط بصره، فذهبت من الدنيا معرفته، وهلكت عند ذلك حجته، وعاين هول أمر كان مغطى عليه فأحدّ لذلك بصره؛ ثم زاد الموت في جده حتى بلغت نفسه الحلقوم، ثم خرج من جسده فصار جسدا ملقى لا يجيب داعيا، ولا يسمع باكيا؛ فنزعوا ثيابه وخاتمه، ثم وضّئوه وضوء الصلاة، ثم غسلوه وكفنوه إدراجا في أكفانه وحنطوه، ثم حملوه إلى قبره، فدلوه في حفرته، وتركوه