يستميل القلوب، ويسترقّ العقول، ويسبي الآراء، ويستميل الأهواء، ويستدعي المواتاة «١» - أنفذ من القتال بظبات السيوف وأسنة الرماح: كما أن الوالي الذي يستنزل طاعة رعيّته بالحيل، ويفرّق كلمة عدوه بالمكايدة، أحكم عملا وألطف نظرا وأحسن سياسة من الذي لا ينال ذلك إلا بالقتال، والإتلاف للأموال، والتغرير والخطار.
وليعلم المهدي- وفقه الله- أنه إن وجه لقتالهم رجلا، لم يسر لقتالهم إلا بجنود كثيفة تخرج على حال شديدة، وتقدم على أسفار ضيقة، وأهوال متفرّقة، وقواد غششة «٢» ، إن ائتمنهم استنفدوا ماله، وإن استنصحهم كانوا عليه لا له.
قال المهدي: هذا رأي قد أسفر نوره، وبرق ضوؤه، وتمثل صوابه للعيون، وتجسد حقه في القلوب، ولكن فوق كلّ ذي علم عليم.
ثم نظر إلى ابنه عليّ فقال: ما تقول؟
قال علي: أيها المهدي، إن أهل خراسان لم يخلعوا من طاعتك يدا، ولم ينصبوا من دونك أحدا يكدح في تغيير ملكك، ويربّض «٣» الأمور لفساد دولتك؛ ولو فعلوا لكان الخطب أيسر، والشأن أصغر، والحال أدل؛ لأن الله مع حقه الذي لا يخذله، وعند موعده الذي لا يخلفه: ولكنهم قوم من رعيتك، وطائفة من شيعتك، الذين جعلك الله عليهم واليا، وجعل العدل بينك وبينهم حاكما، طلبوا حقا، وسألوا إنصافا؛ فإن أجبت إلى دعوتهم، ونفست عنهم قبل أن تتلاحم منهم حال، أو يحدث من عندهم فتق، أطعت أمر الرب، وأطفأت نائرة الحرب «٤» ، ووفّرت خزائن المال، وطرحت تغرير «٥» القتال؛ وحمل الناس محمل ذلك على طبيعة جودك وسجيّة حلمك، وإسجاح خليقتك «٦» ، ومعدلة نظرك؛ فأمنت أن تنسب إلى ضعفة، وأن يكون ذلك لهم فيما بقي دربة. وإن منعتهم ما طلبوا، ولم تجبهم إلى ما سألوا،