اعتدلت بك وبهم الحال، وساويتهم في ميدان الخطاب. فما أرب المهدي أن يعمد إلى طائفة من رعيته: مقرّين بمملكته، مذعنين لطاعته، لا يخرجون أنفسهم عن قدرته، ولا يبرئونها من عبوديّته، فيملّكهم أنفسهم، ويخلع نفسه عنهم، ويقف على الجدل معهم، ثم يجازيهم السوء في جد المقارعة، ومضمار المخاطرة؟ أيريد المهدي- وفقه الله- الأموال؟ فلعمري لا ينالها ولا يظفر بها إلا بإنفاق أكثر مما يطلب منهم، وأضعاف ما يدّعي قبلهم؛ ولو نالها فحملت إليه، أو وضعت بخرائطها بين يديه، ثم تجافى لهم عنها، وطال عليهم بها، لكان مما إليه ينسب وبه يعرف، من الجود الذي طبعه الله عليه، وجعل قرّة عينه ونهمة نفسه فيه. فإن قال المهدي: هذا رأي مستقيم سديد في أهل الخراج الذين شكوا ظلم عمّالنا وتحامل ولاتنا، فأما الجنود الذين نقضوا مواثيق العهود، وأنطقوا لسان الإرجاف «١» ، وفتحوا باب المعصية، وكسروا قيد الفتنة؛ فقد ينبغي لهم أن أجعلهم نكالا لغيرهم؛ وعظة لسواهم. فيعلم المهدي أنه لو أتى بهم مغلولين في الحديد، مقرّنين في الأصفاد، ثم اتسع لحقن دمائهم عفوه، ولإقالة عثرتهم صفحه، واستبقاهم لما هم فيه من حربه، أو لمن بإزائهم من عدوّه، لما كان بدعا من رأيه، ولا مستنكرا من نظره. لقد علمت العرب أنه أعظم الخلفاء والملوك عفوا، وأشدّها وقعا، وأصدقها صولة، وأنه لا يتعاظمه عفو، ولا يتكاءده «٢» صفح، وإن عظم الذنب وجلّ الخطب. فالرأي للمهدي- وفقه الله تعالى- أن يحل عقدة الغيظ بالرجاء لحسن ثواب الله في العفو عنهم، وأن يذكر أولى حالاتهم وضيعة عيالاتهم، برّا بهم، وتوسّعا لهم، فإنهم إخوان دولته، وأركان دعوته، وأساس حقه، الذين بعزتهم يصول، وبحجتهم يقول. وإنما مثلهم فيما دخلوا فيه من مساخطه، ونعرّضوا له من معاصيه، وانطووا فيه عن إجابته؛ ومثله في قلة ما غيّر ذلك من رأيه فيهم، أو نقل من حاله لهم، أو تغيّر من نعمته بهم- كمثل رجلين أخوين متناصرين متوازرين، أصاب أحدهما خبل عارض «٣» ، ولهو حادث، فنهض