للثقة، والمطّلب لمواضع الكفاية: فقعد فيه الرجاء كما قعد بأمير المؤمنين فيما نصبك له، فكأنّ هذا ألبس أمير المؤمنين ثوب العزاء، ونهض بعذره إلى استنشاق نسيم الرّوح؛ فاعتزل عمل أمير المؤمنين واظعن عنه باللعنة اللازمة، والعقوبة الناهكة إن شاء الله، إذ استحكم لأمير المؤمنين ما يحاول من رأيه، والسلام.
ودعا عبد الملك مولى له يقال له نباتة، له لسان وفضل رأي، فناوله الكتاب، ثم قال له: يا نباتة، العجل ثم العجل، حتى تأتي العراق، فضع هذا الكتاب في يد الحجاج، وترقب ما يكون منه، فإذا أجبل «١» عند قراءته واستيعاب ما فيه، فاقلعه عن عمله وانقلع معه حتى تأتي به، وهدّن «٢» الناس حتى يأتيهم أمري، بما تصفني به في حين انقلاعك، من حبّي لهم السلامة؛ وإن هش للجواب ولم تكتنفه أربة «٣» الحيرة، فخذ منه ما يجيب به وأقرره على عمله، ثم اعجل علي بجوابه.
قال نباتة: فخرجت قاصدا إلى العراق، فضمتني الصحارى والفيافي، واحتواني القرّ، وأخذ مني السفر، حتى وصلت؛ فلما وردته أدخلت عليه في يوم ما يحضره فيه الملأ، وعلى شحوب مضنى، وقد توسط خدمه من نواحيه وتدثر بمطرف خز ادكن»
، ولاث به الناس من بين قائم وقاعد؛ فلما نظر إليّ- وكان لي عارفا- قعد، ثم تبسّم تبسّم الوجل، ثم قال: أهلا بك يا نباتة، أهلا بمولى أمير المؤمنين لقد أثّر فيك سفرك، وأعرف أمير المؤمنين بك ضنينا، فليت شعري ما دهمك أو دهمني عنده؟ قال: فسلّمت وقعدت، فسأل: ما حال أمير المؤمنين وخوله؟ ... فلما هدأ أخرجت له الكتاب فناولته إياه، فأخذه مني مسرعا ويده ترعد، ثم نظر في وجوه الناس فما شعرت إلا وأنا معه ليس معنا ثالث، وصار كل من يطيف به من خدمه يلقاه جانبا، لا يسمعون منا الصوت؛ ففك الكتاب فقرأه، وجعل يتثاءب ويردد تثاؤبه، ويسيل العرق على جبينه وصدغيه- على شدة البرد- من تحت قلنسوته من