للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإذا أضمر الوالي لمن فارق طاعته وخالف جماعته، الخوف مفردا والشرّ مجردا، ليس معهما طمع يكسرهم، ولا لين يثنيهم، امتدت الأمور بهم، وانقطعت الحال منهم إلى أحد أمرين: إما أن تدخلهم الحميّة من الشدة، والأنفة من الذلّة، والامتعاض «١» من القهر، فيدعوهم ذلك إلى التمادي في الخلاف، والاستبسال في القتال، والاستسلام للموت؛ وإما أن ينقادوا بالكره، ويذعنوا بالقهر، على بغضة لازمة، وعداوة باقية، تورث النفاق، وتعقب الشقاق، فإذا أمكنتهم فرصة، أو ثابت لهم قدرة، أو قويت لهم حال، عاد أمرهم إلى أصعب وأغلظ وأشدّ مما كان.

وقال: في قول الفضل أيها المهدي، أكفى دليل، وأوضح برهان، وأبين خبر بان. قد اجتمع رأيه، وحزم نظره على الإرشاد ببعثة الجيوش، إليهم، وتوجيه البعوث نحوهم، مع إعطائهم ما سألوا من الحق، وإجابتهم إلى ما سألوه من العدل.

قال المهدي: ذلك رأي.

قال هارون: خلطت الشدة أيها المهدي باللين، فصارت الشدة أمرّ فطام لما تكره، وعاد اللين أهدى قائد إلى ما تحب؛ ولكن أرى غير ذلك.

قال المهدي: لقد قلت قولا بديعا، وخالفت به أهل بيتك جميعا، والمرء متّهم بما قال، وظنين بما ادّعى، حتى يأتي ببينة عادلة، وحجة ظاهرة، فاخرج عما قلت.

قال هارون: أيها المهدي، إن الحرب خدعة، والأعاجم قوم مكرة، وربما اعتدلت الحال بهم، واتفقت الأهواء منهم، فكان باطن ما يسرّون على ظاهر ما يعلنون؛ وربما افترقت الحالان، وخالف القلب اللسان، فانطوى القلب على محجوبة تبطن، واستسرّ بمدخولة لا تعلن؛ والطبيب الرفيق بطبّه، البصير بأمره، العالم بمقدّم يده، وموضع ميسمه «٢» ، لا يتعجل بالدواء حتى يقع على معرفة الداء؛ فالرأي للمهدي- وفقه الله- أن يفرّ «٣» باطن أمرهم فرّ المسنّة، ويمخض ظاهر حالهم