محض السّقاء، بمتابعة الكتب، ومظاهرة الرسل، وموالاة العيون، حتى تهتك حجب غيوبهم، وتكشف أغطية أمورهم؛ فإن انفرجت الحال له وأفضت الأمور به إلى تغيير حال أو داعية ضلال، اشتملت الأهواء عليه، وانقاد الرجال إليه، وامتدت الأعناق نحوه، بدين يعتقدونه. وإثم يستحلّونه، عصبهم بشدّة «١» . لا لين فيها، ورماهم بعقوبة لا عفو معها، وإن انفرجت الغيوب، واهتصرت السّتور، ورفعت الحجب، والحال فيهم مريعة «٢» ، والأمور بهم معتدلة، عن أرزاق يطلبونها، وأعمال ينكرونها، وظلامات يّدعونها، وحقوق يسألونها، بماتّة سابقتهم، ودالّة مناصحتهم.
فالرأي للمهدي- وفقه الله- أن يتسع لهم بما طلبوا، ويتجافى لهم عما كرهوا، ويشعب «٣» من أمرهم ما صدعوا، ويرتق من فتقهم ما فتقوا؛ ويولّي عليهم من أحبّوا، ويداوي بذلك مرض قلوبهم، وفساد أمورهم؛ فإنما المهدي وأمته وسواد أهل مملكته بمنزلة الطبيب الرفيق، والوالد الشفيق، والراعي الحدب، الذي يحتال لمرابض غنمه، وضوالّ رعيته، حتى يبرىء المريضة من داء علتها، ويرد الضالّة إلى أنس جماعتها. ثم إن خراسان بخاصة لهم ذالّة محمولة، وماتّة مقبولة، ووسيلة معروفة، وحقوق واجبة؛ لأنهم أيدي دولته، وسيوف دعوته، وأنصار حقه، وأعوان عدله.
فليس من شأن المهدي الاضطغان عليهم، ولا المؤاخذة لهم، ولا التوعّر بهم «٤» ، ولا المكافأة بإساءتهم؛ لأن مبادرة حسم الأمور ضيعفة قبل أن تقوى، ومحاولة قطع الأصول ضئيلة قبل أن تغلظ، أحزم في الرأي وأصحّ في التدبير، من التأخير لها والتهاون بها، حتى يلتئم قليلها بكثيرها، وتجتمع أطرافها إلى جمهورها.
قال المهدي: ما زال هارون يقع وقع الحيا، حتى خرج خروج القدح مما قال، وانسلّ انسلال السيف فيما ادعى، فدعوا ما قد سبق موسى فيه أنه هو الرأي، وثنّى بعده هارون، ولكن من لأعنّة الخيل، وسياسة الحرب، وقيادة الناس، إن أمعن بهم اللجاج، وأفرطت بهم الدالّة؟ «٥»