جمة البئر «١» ، وكنت منهم في خير أخوال؛ ثم إني عزمت على مواقعة إبلي بماء لهم يقال له الحوادث؛ فركبت يوما فرسي، وعلقت معي شرابا أهداه إلي بعض الكلبيين، فانطلقت؛ حتى إذا كنت بين الحي ومرعى النعم، رفعت لي دوحة عظيمة، فقلت: لو نزلت تحت هذه الشجرة ثم تروّحت مبردا! ففعلت، فشددت فرسي ببعض أغصانها، ثم جلست تحتها، فإذا بغبار [قد] سطع من ناحية الحي، ثم تبينت، فبدت لي شخوص ثلاثة، فإذا فارس يطرد مسحلا «٢» وأتانا، فلما قرب مني إذا عليه درع أصفر وعمامة خز سوداء؛ فما لبث أن لحق المسحل فطعنه فصرعه، ثم ثنى طعنة للأتان، وأقبل وهو يقول:
نطعنهم سلكى ومخلوجة ... كرك لأمين على نابل «٣»
فقلت له: إنك قد تعبت وأتعبت، فلو نزلت، فثنى رجله ونزل وشدّ فرسه ببعض أغصان الشجرة؛ ثم أقبل حتى جلس، فجعل يحدثني حديثا ذكرت به قول الشاعر:
وإنّ حديثا منك لو تبذلينه ... جنى النحل في ألبان عوذ مطافل «٤»
فبينا هو كذلك، إذ نكت بالسوق على ثنيتيه، فما ملكت نفسي أن قبضت على السوط وقلت: مه! فقال: ولم؟ قلت: إني خائف أن تكسرها؛ إنهما رقيقتان عذبتان.
قال: فرفع عقيرته وجعل يقول:
إذا قبّل الإنسان آخر يشتهي ... ثناياه لم يأثم وكان له أجر
وقال: ما هذا الذي جعلت في سرجك؟ قلت: شراب أهداه إليّ بعض أهلك.
فهل لك فيه؟ قال: ما نكرهه إذا كره. فأتيته به، فوضعته بيني وبينه، فلما شرب منه شيئا نظرت إلى عينيه كأنهما عينا مهاة قد أضلت ولدها؛ ثم رفع عقيرته يتغنى: