للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

رقم الحديث:

الجاهليةِ وقضَى بها رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بينَ ناسٍ منَ الأنصارِ في قتيلٍ ادَّعوه علَى يهود. رواهُ مسلمٌ).

قولُه: على ما كانتْ عليهِ في الجاهليةِ، هو إشارة إلى ما أخرجَهُ البخاريُّ (١) في قصةِ الهاشميِّ في الجاهليةِ وفيها: "أنَّ أبا طالبٍ قالَ للقاتلِ: اخترْ مِنَّا إحدَى ثلاثٍ: إنْ شِئتَ أنْ تؤدِّيَ مائةً منَ الإبلِ فإنكَ قتلتَ صاحبنَا خطأً، وإنْ شئتَ حلفَ خمسونَ منْ قومِكَ أنكَ لم تقتلْه، وإنْ أَبَيْتَ قتلْناكَ بهِ"، وفيهِ دليلٌ على ثبوتِ القتلِ بالقَسَامةِ.

واعلمْ أنا قدْ أشرْنا إلى أنهُ لم يثبتِ القسامةَ إلَّا الجماهيرُ كما قرَّرْناهُ عنْهم، وذهبَ سالمُ بنُ عبدِ اللهِ وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ وأبو قلابةَ وابنُ عليةَ والناصرُ إلى عدمِ [شرعية القسامة] (٢) لمخالفتِها الأصولَ المقررة شرْعًا، فإنَّ الأصْلَ أنَّ البيِّنةَ على المدَّعي واليمينُ على المدَّعَى عليهِ، وبأنَّ الأَيْمانَ لا تأثيرَ لها في إثباتِ الدماءِ، وبأنَّ الشرعَ وردَ بأنهُ لا يجوزُ الحِلفُ إلَّا علَى ما عُلِمَ قطْعًا أو شُوهَدَ حِسًا وبأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يحكمْ بها وإنَّما كانتْ حُكْمًا جاهليًا فتلطَّفَ - صلى الله عليه وسلم - بهم ليريَهم كيفَ لا يجري الحكمُ بها على أصولِ الإسلامِ.

وبيانُ أنهُ لم يحكمْ بها أنَّهم لما قالُوا لهُ: وكيفَ نحلفُ ولم نحضرْ ولم نشاهدْ، لمْ يبيِّنْ لهمْ أنَّ هذا الحلِفَ في القسامة منْ شأنِه ذلكَ وأنهُ حُكْمُ اللهِ وشرعُه، بلْ عدلَ إلى قولِه: تحلف لكمْ يهودُ، فقالُوا: ليسوا بمسلمينَ، فلم يوجبْ - صلى الله عليه وسلم - عليهمْ ويبيِّنْ لهمْ أنْ ليسَ لكمْ إلَّا اليمينُ منَ المدَّعَى عليهمْ مُطْلقًا مسلمينَ كانُوا أو غيرَهم، بلْ عدلَ إلَى إعطاءِ الديةِ منْ عندِه - صلى الله عليه وسلم -، ولو كانَ الحكمُ ثابتًا بها لبيَّن وجْهَهُ لهمْ، بل تقريرُه - صلى الله عليه وسلم - لهمْ على أنهُ لا حَلِفَ إلَّا على شيءٍ مشاهَدٍ مَرْئِيٍّ دليلٌ على أنه لا حَلِفَ في القسامةِ، ولأنهُ لمْ يطلبْ - صلى الله عليه وسلم - اليهودَ للإجابةِ عنْ خصومِهم في دعواهُم فالقصةُ مناديةٌ بأنَّها لم تخرجْ مَخْرَجَ الحكمِ الشرعيِّ إذْ لا يجوزُ تأخيرُ البيانِ عنْ وقتِ الحاجةِ، فهذَا أقْوى دليلٍ بأنَّها ليستْ


(١) في "صحيحه" رقم (٣٨٤٥). قلت: وأخرجه النسائي (٨/ ٢ - ٤) رقم (٤٧٠٦).
(٢) في (ب): "شرعيتها".