للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

القضاة أضحى واضحا في أواخر القرن التاسع الهجريّ، وللمقارنة بين هيبة القاضي في القرن الثامن، وضياعها في القرن التاسع، يذكر في أول حوادث سنة ٧٧٨ هـ‍. ما يلي: «في محرّم طلب قاضي القضاة البرهان بن جماعة دوادار أقتمر النائب ووبّخه ونهره في مجلس حكمه، ووضع من أقتمر بسبب ما يحدث من أحكامه بين الناس، وذكر له أنه بلغه عنه أنه ضرب ربّ دين بحضور مديونه، فتلطّف الدوادار وترفّق به حتى خلّص منه، وقد خاف منه».

ثم يعقّب بعد ذلك بقوله: «فانظر إلى ذلك الزمان وزماننا هذا، هل يتجرّى قاضي قضاة عصرنا أن يطلب غلام الأتابك أزبك، فضلا عن دواداره» (١)

وفي حوادث سنة ٧٨١ هـ‍. (شهر جمادى الأول) ذكر أنه خلع على قاضي القضاة الحنفية جار الله بأن يقرّر مودع حكم الأيتام وأن يلبس الطرحة كالقاضي الشافعيّ، ويقيم أمين حكم، ويولّي قضاة الحنفية بالبلاد، فقام الشافعية في ذلك أشدّ قيام، واستمال العلاّمة الكمال البدر في ذلك. ولا زالوا حتى بطّلوا هذا الأمر بعد أن عقد مجلس عند الأتابك برقوق بسبب ذلك.

فعلّق المؤلّف على هذا بقوله: «وهذا أمر لا طائل تحته حتى يتنافس فيه في الحقيقة، فإنّ قاضي القضاة في هذا الزمن اسم لا مسمّى له، إذ كان في العصر الأول منفردا كأبي يوسف فهو قاضي قضاة الإسلام حقيقة. ولي في هذا كلام طويل لا يسعه هذا المختصر» (٢).

وفي سنة ٧٨٣ هـ‍. كانت كائنة نفي الجمال محمود العجمي المحتسب في شهر شعبان، حيث أمر الأتابك برقوق بذلك، وسببه أنّ كلاما وقع في مجلس برقوق وهو حاضر، وذكر فيه الهنديّ بن منصور القاضي الحنفيّ، فقال برقوق: «القضاة ما هم مسلمون»، وكان ذلك بالتركية، فنقل العجميّ قوله لابن منصور الهنديّ فشقّ عليه ذلك وركب إلى ابن جماعة الشافعيّ، وقال له: إني قطعت عمري بالاشتغال بالعلم بدمشق، [و] في آخر عمري أنفى بمصر عن الإسلام! وذكر له ما نقل عن برقوق، واستشاره في عزل نفسه، فتغيّر ابن جماعة من ذلك جدا، وركب من فوره إلى برقوق، وفاوضه في ذلك، فغضب من محمود العجميّ وعزله وأمر بنفيه حتى شفع فيه.

ويعقّب المؤلّف على ذلك بقوله: «وهذا أيضا مما حدث في دولة الجركس، وإن القضاة والعلماء كانوا في غاية الأوج من العظمة حتى على تقدير شيء فيهم، لكن لكونهم وعاء العلم كانوا يعظّمون ويقبّل السلطان والأمراء الأكابر أياديهم، ويخشون من


(١) نيل الأمل، أول حوادث سنة ٧٧٨ هـ‍.
(٢) نيل الأمل ١ / ورقة ١٤١.

<<  <  ج: ص:  >  >>