له ووعده بالجميل، وبعث إليه بأشياء، وعاد إلى دمشق، وأخذ في كل قليل يبعث بالاستعفاء من التقدية التي بيده بدمشق، ولا زال حتى أجيب إلى ذلك بمندوحة قدّمنا ذكرها في محلّها. وأعطي الوالد إمرة عشرين بطرابلس ليأكلها طرخانا، فتوجّه إليها في سنة تسع وخمسين على ما تقدّم، وأقام على ذلك مدّة بطرابلس وهو معفى من الخدم وسائر الكلف السلطانية، منعكفا على الشغل والإشغال بمطالعة الكتب وإسماع الحديث وإلقاء شيئا (كذا) من الدروس، وصنّف بها عدّة من الكتب في تلك الاستراحة، وأنشأ بها دارا وزاوية ومدفنا أعدّه لدفن نفسه آل الأمر بسبب من إنسان أن دخل طرابلس وبها بغته الأجل ودفن به بعد أن خرج من طرابلس وغاب عنها عدّة سنين على ما ستعرف ذلك.
وكان وهو بطرابلس في غاية الراحة والخدمة وجميع أعيانها يعظّمونه ويتردّدون إليه. ثم إنّه بعث إلى الأشرف بما قدّمنا ذكره من السواقة، ولما وصل ذلك للأشرف المذكور أعجبه وذكره بخير، ثم أعاب على نفسه بنفسه كونه لم يقدّمه في دولته ولا نوّه به مع الصحبة القديمة الأكيدة. واتفق أن شغرت إمرة طبلخاناة بدمشق، فاستقرّ به فيها، وكتب إليه بأن يأكلها طرخانا حتى يجد له ما يليق به، ووعده بالجميل، وبعث إليه مشافهة مع قاصده المتوجّه بالسواقة فيها غاية التعظيم، فتوجّه الوالد إلى دمشق في أواخر سنة أربع وستين.
واتفق أن مات الأشرف إينال بعد قليل من ذلك، وتسلطن ولده المؤيّد فبعث إليه يطلبه إلى القاهرة، فقدمها في أوائل شهر رمضان سنة خمس وستين. فاتفق أن جرى للمؤيّد ما جرى من خلعه، ثم سلطنة الظاهر خشقدم فأنس به وقدّمه واختصّ به، وأذن له أن يقيم بالقاهرة على ما بيده من إمريّة بدمشق طرخانا كما كان، وأذن له بالاجتماع به في الأسبوع مرّتين في يومي الجمعة والثلاثاء، وأعاد إليه بعض مرتّبات كانت باسمه وأخرجت عنه، ورتبّت له بحمل عليقا وغير ذلك، وجالسه وسارره وشاوره في كثير من أموره، وقبل الكثير من شفاعاته، وتكلّم في أيامه في كثير من القضايا المهمّة وأنهاها، وانتفع به الكثير من الناس بواسطة ذلك. وقصد وتردّد الناس إلى بابه وازدحموا عليه مع عدم التفاته إلى شيء مما في أيديهم وغاية عفّة عن ذلك ونزاهة، وكوتب من أقاصي المملكة في كثير من المهمّات وأنهاها وأحسن السفارة فيها. داوم على ذلك في حرمة ووجاهة إلى أن كان من أمر الخليفة المستنجد بالله (١) ما تقدّم بيانه في سنة إحدى وسبعين من أن يكلّم له السلطان في عساه أن يأذن له بالنزول إلى محلّ سكنى الخلفاء قبله.
(١) هو يوسف بن محمد بن أبي بكر بن سليمان بن أحمد بن حسين الهاشمي العباسي. مات سنة ٨٨٤ هـ. (حوادث الزمان ووفيات الشيوخ والأقران، لابن الحمصي (ت ٩٣٤ هـ.) - تحقيق أ. د. عمر عبد السلام تدمري، طبعة المكتبة العصرية، صيدا - بيروت ١٤١٩ هـ / ١٩٩٩ م - ج ١/ ٢٢٩ رقم ٢٩٧).